الدينار والدرهم، وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما، لم يحب إلا الدينار.
كذلك من عرف الله، وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم، وعرف أن الجمع بين تلك اللذة ولذة التنعم بالحور العين والنظر إلى القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره.
وقال بعض العرفاء: ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم، بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم الجنة، كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق، بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به. والطالبون لنعيم الجنة، عند أهل المعرفة وأرباب القلوب، كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك، لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق.
تتميم الزهد الحقيقي لا تظنن أن كل من يترك مال الدنيا أنه زاهد، فإن ترك المال وإظهار التضييق والخشونة في المأكل والمأكل والملبس سهل على من أحب المدح بالزهد.
فكم من الرهبان والمرائين تركوا مال الدنيا وروضوا (45) أنفسهم كل يوم على قدر قليل من القوت، واكتفوا من المسكن بأي موضع اتفق لهم، وكان غرضهم من ذلك أن يعرفهم الناس بالزهد ويمدحهم عليه، فهم تركوا المال لنيل الجاه. فالزهد الحقيقي ترك المال والجاه، بل جميع حظوظ النفس من الدنيا. وعلامة ذلك استواء الغنى والفقر والذم والمدح والذل والعز لأجل غلبة الأنس بالله، إذ ما لم يغلب على القلب الأنس بالله والحب له لم يخرج عنه حب الدنيا بكليته. إذ محبة الله ومحبة الدنيا في القلب كالماء والهواء في القدح، فإذا دخل أحدهما خرج الآخر، فكلاهما لا يجتمعان ولا يرتفعان أيضا. فالقلب المملوء من حب الدنيا يكون خاليا عن حب الله، كما أن القلب المشغول بحب الله وأنسه فارغ عن حب الدنيا، وبقدر ما