.. وهكذا على التوالي، ألا ترى إن ما يضطر إليه الإنسان بالذات منحصر بالمأكل والملبس والمسكن؟ ولذلك حدثت الحاجة إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات: الفلاحة، والرعاية للمواشي، والحياكة، والبناء، والاقتناص - أي تحصيل ما خلق الله من الصيد والمعادن والحشائش والأحطاب - وتترتب على كل من هذه الصناعات صناعات أخر، وهكذا إلى أن حدثت جميع الصناعات التي تراها في العالم، وما من أحد إلا وهو مشتغل بواحدة منها أو أكثر إلا أهل البطالة والكسالة، حيث غفلوا عن الاشتغال في أول الصبا، أو منعهم مانع واستمروا على غفلتهم وبطالتهم، حتى نشأوا بلا شغل واكتساب، فاضطروا إلى الأخذ مما يسعى فيه غيرهم ولذلك حدثت حرفتان خبيثتان هي (اللصوصية) و (الكدية) (15)، ولكل واحد منهما أنواع غير محصورة لا تخفى على المتأمل.
فصل ذم الدنيا وأنها عدوة الله والانسان إعلم أن الدنيا عدوة لله ولأوليائه ولأعدائه: أما عداوتها لله، فإنها قطعت الطريق على العبادة، ولذلك لم ينظر إليها مذ خلقها، كما ورد في الأخبار (16). وأما عداوتها لأوليائه وأحبائه، فإنها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها، حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لأعدائه، فإنها استدرجتهم بمكرها ومكيدتها واقتنصتهم بشباكها وحبائلها حتى وثقوا بها وعولوا عليها، فاجتبوا منها حيرة وندامة تنقطع دونها الأكباد، ثم حرمتهم عن السعادة أبد الآباد، فهم على فراقها يتحسرون، ومن مكائدها يستغيثون ولا يغاثون، بل يقال لهم:
" إخسؤا فيها ولا تكلمون " (17). " أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون " (18).
والآيات الواردة في ذم الدنيا وحبها كثيرة، وأكثر القرآن مشتمل