فكذلك التفات قلب العبد إلى غير الله تعالى وبغضه وكراهته نقصان في الحب والأنس، كما أن التفاته بالحب نقص فيهما. إذ كما لا يجتمع في قلب واحد حبان في حالة واحدة، فكذلك لا يجتمع فيه حب وبغض في حالة واحدة. فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها، وإن كان الثاني أسوأ حالا من الآخر. إذ المشغول يحبها غافل في غفلته، سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل، وهو في غفلته سالك في طريق القرب، فيحتمل زوال غفلته وتبدلها بالشهود، فالكمال مرتقب له، إذ بغض الدنيا مظنة توصل العبد إلى الله.
وهرب الأنبياء والأولياء من المال، وفرارهم عنه، وترجيحهم فقده على وجوده - كما أشير إليه في بعض الأخبار والآثار -: أما نزول منهم إلى درجة الضعفاء ليقتدوا بهم في الترك، إذ الكمال في حقهم حب الترك وبغض الوجود، لأن مع وجوده يتعذر في حقهم استواء وجوده وفقده وكونه عندهم كماء البحر، فلو لم يظهر الأنبياء النفار والكراهة من المال ويقتدي الضعفاء بهم في الأخذ لهلكوا. فمثل النبي كمثل المعزم الحاذق، يفر بين يدي أولاده من الحية، لا لضعفه عن أخذها، بل لعلمه بأنه لو أخذها لأخذها أولاده أيضا إذا رأوها، وهلكوا. فالسير بسيرة الضعفاء صفة الأنبياء والأوصياء. أو غير الهرب والنفار اللازمين للبغض والكراهة وخوف الاشتغال به، بل كان نفارهم منه كنفارهم من الماء، على معنى أنهم شربوا منه بقدر حاجتهم، وتركوا الباقي في الشطوط والأنهار للمحتاجين من غير اشتغال قلوبهم بحبه وبغضه. ألا ترى أنه قد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله وخلفائه، فأخذوها ووضعوها في مواضعها، من غير هرب منه وبغض له، وذلك لاستواء المال والماء والحجر والذهب عندهم.
ثم تسمية صاحب هذه المرتبة بالفقير والمستغني لا يوجب التنافي، إذ إطلاق الفقير عليه لمعرفته بكونه محتاجا إليه تعالى في جميع أموره عامة وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة، فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها، فإنه أحق باسم العبد من الغافلين، وإن كان عاما للخلق. ثم كل مرتبة من المراتب المذكورة للفقر، ما عدا الأخيرة، أعم من أن يكون بالغا حد الاضطرار، بأن يكون ما فقده من المال مضطرا