وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره قد عقد طرفيه إلى عنقه فصلى كذلك ".
وشدة زهد علي (ع) وتركه الدنيا أشهر من أن يحتاج إلى بيان وكذا من بعده من الأئمة الراشدين والأصحاب والتابعين وغيرهم من أكابر الدين وللسلف الصالحين، حتى كان أحدهم بعيش خمسين سنة وستين لم يطوله ثوب ولم ينصب له قدر ولم يجعل بينه وبين الأرض شيئا ولا أمر من في بيته بصنعة طعام، فعلى أطرافهم يقومون ووجوههم على الأرض يفترشون تجري دموعهم على خدودهم ويناجون ربهم في فكاك رقابهم من النار.
وقد حكي أن بعض الخلفاء أرسل إلى بعضهم بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها فشق ذلك على أهله، فقال أتدرون؟ ما مثلي ومثلكم إلا كمثل قوم كانت لهم بقرة يحرثون عليها فلما هرمت ذبحوها لينتفعوا بجلدها، فكذلك أنتم أردتم ذبحي على كبر سني فموتوا جوعا خير لكم من أن تذبحوني.
وقد بلغ بعضهم من الزهد بحيث يطلب لقيام الليل موضعا لا يصيبه نسيم الأسحار خيفة من الاستراحة به. وكان لبعضهم حب مكسور، فيه ماؤه، لا يرفعه من الشمس ويشرب الماء الحار ويقول من وجد لذة الماء البارد يشق عليه مفارقة الدنيا.
فيا حبيبي أفق من سكر الهوى واعرف المضادة التي بين الآخرة والدنيا، واقتد بالواقفين على جلية الحال والمطلعين على حقيقة المآل في المواظبة على الزهد والتقوى وفطام النفس عن لذائذ الدنيا، فإن ذلك وإن كان شاقا فمدته قريبة، والاحتماء مدة يسيرة للتنعم على التأييد لا يثقل على أهل المعرفة القاهرين أنفسهم بسياسة الشرع المبين المعتصمين بعروة اليقين بما وعد الله في الآخرة لعباده الزاهدين.
فصل اعتبارات الزهد ودرجاته إعلم أن للزهد اعتبارات تتحقق له بكل اعتبار درجات:
(الأول) اعتبار نفسه أي من حيث نفس الترك للدنيا وبهذا الاعتبار له درجات ثلاث: (الأولى) أن يزهد في الدنيا مع ميله إليها وحبه لها بأن