على نفسه حتى يقتلها، ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب العمل الذي عمله بنفسه كما قيل في ذلك:
ألم تر أن المرء طول حياته * معنى بأمر لا يزال يعالجه كدود كدود القز ينسج دائما * ويهلك غما وسط ما هو ناسجه فكل مكب على الدنيا متبع للشهوات لا يزال يقيد نفسه بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها، إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين شهواته دفعة، فتبقى السلاسل من قلبه معلقة بالدنيا التي فاتته وخلفها، وهي تجاذبه إلى الدنيا، ومخالب ملك الموت قد تعلقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة فأهون أحواله عند الموت أن يكون مثل شخص ينشر بالمناشير ويفصل أحد جانبيه عن الآخر. فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرات نزوله في أسفل السافلين ومنعه عن أعلى عليين وجوار رب العالمين. فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله، وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم، إذ النار لكل محجوب معدة، كما قال الله تعالى:
" كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم " (44).
ولما انكشف لأرباب القلوب أن العبد يهلك نفسه باتباع الهوى والخوض في الدنيا إهلاك دود القز نفسه، رفضوا الدنيا بالكلية. فنسأل الله تعالى أن يقرر في قلوبنا ما نفث في روع حبيبه (ص)، حيث أوحى إليه: " أحبب ما أحببت، فإنك مفارقه ".
* * * (الثالث) اعتبار المرغوب فيه: أعني ما يترك لأجله. وله بهذا الاعتبار ثلاث درجات. الأولى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر عذاب الآخرة، وهذا زهد الخائفين. الثانية: أن يكون ثواب الله ونعيم الجنة، وهذا زهد الراجين. الثالثة: وهي الدرجة العليا، ألا تكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه، فلا يلتفت إلى الآلام ليقصد منها الخلاص، ولا إلى اللذات ليقصد نيلها، بل كان مستغرق الهم بالله، وهذا زهد العارفين لأنه لا يحب الله خاصة إلا من عرفه بصفاته الكمالية. فكما إن من عرف