ضعفاء الزهاد، بمعنى أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات العالية والدرجات الرفيعة لا يناله، وإن صدق عليه كونه زاهدا، إذ مثله ليس له قوة اليقين، لا صاحب اليقين الواقعي إذا كان له قوت يومه لا يدخر شيئا لغده، ومن شرط التوكل في الزهد فلا يكون هذا من الزهاد عنده. وهذا غاية الزهد في الأمور المذكورة، وعليه جرت طوائف الأنبياء وزمرة الأوصياء ومن بعدهم من السلف الأتقياء. والحق أن حكم الزهد فيها يختلف باختلاف الأشخاص والأوقات فإن أمر المتفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل، ومن قصر جميع همه على تحصيل العلم والعمل ولم يقدر على كسب، حاله يخالف حال أهل الكسب، وكذا في بعض الأوقات وفي بعض الأماكن يمكن تحصيل قدر الحاجة في كل يوم وفي بعض آخر منهما لا يمكن ذلك، فاللائق لكل أحد أن يلاحظ حاله ووقته ومكانه ويتأمل في أن الأصلح بأمر آخرته والأعون على تحصيل ما خلق لأجله إمساك أي قدر من المال وصرف أي قدر وجنس من القوت، بحيث لو كان أقل منه لم يتمكن من تحصيل ما يقربه إلى ربه فيأخذ به ويترك الزائد، فإن بعد صحة النية وخلوص القصد في ذلك لا يخرج به عن الزهد الواقعي وإن تصور الاكتفاء بأقل من ذلك مع إيجابه لفقد ما هو أهم في تكميل النفس.
وأما (الجاه) فقد تقدم أن القدر الضروري منه في أمر المعيشة كتحصيل منزلة في قلب خادمه ليخدمه، وفي قلب السلطان ليدفع الأشرار عنه، لا بأس به، فالظاهر عدم منافاة هذا القدر للزهد، وقال بعض العلماء: (هذا القدر وإن لم يكن به بأس إلا أنه يتمادى إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضرر أو لخلاص من ظلم: أما النفع فيغني عنه المال فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن لمستأجره عنده قدر، وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة، ومعلوم أن من أراد أن يخدم بغير أجرة فهو من الظالمين فكيف يكون من الزاهدين. وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل العدل فيها وأن يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في القلوب أو محل له عند السلطان. وقدر