وهذه الثلاثة الأخيرة مما يغمض دركها، لأن أكثر الناس يظنون أن الرحمة والتعجب والغضب إذا كان لله كان عذرا في ذكر الاسم، وهو خطأ محض، إذ المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها من ذكر الاسم دون غيرها، وقد روي: " أن رجلا مر على قوم في عصر النبي (ص) فلما جاوزهم، قال رجل منهم: إني أبغض هذا الرجل لله فقال القوم: ولله لبئس ما قلت! وإنا نخبره بذلك، فأخبروه به، فأتى الرجل رسول الله (ص) وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه فدعاه، وسأله عما قال في حقه، فقال: نعم قد قلت ذلك. فقال رسول الله: ولم تبغضه؟ فقال: أنا جاره وأنا به خبير والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة! فقال: يا رسول الله، فاسأله هل رآني أخرتها عن وقتها لو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟ فسأله فقال: والله ما رأيته يصوم شهرا قط إلا هذا الشهر الذي يصومه كل بر وفاجر قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئا؟
فسأله، فقال: لا! فقال: والله ما رأيته يعطي سائلا قط ولا مسكينا، ولا رأيته ينفق من ماله شيئا في سبيل الخير إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر!
قال: فاسأله هل رآني نقصت منها شيئا أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها فسأله فقال: لا: فقال رسول الله (ص) للرجل: قم، فلعله خير منك " ولا ريب في أن إنكار القوم عليه بعد قوله أبغضه لله يفيد عدم جواز إظهار المنكر الصادر من شخص لغيره، وإن كان في مقام الغضب والبغض لله.
فصل ذم الغيبة لما علمت حقيقة الغيبة وبواعثها، فاعلم أنها أعظم المهلكات وأشد المعاصي وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه، وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال:
" ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " (21). وقال: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول