فينبغي لكل مؤمن أن يكون باعث جميع أفعاله التقرب إلى الله ليصير الجميع عبادة. فإن أبعد الأفعال من العبادة الأكل والوقاع وقضاء الحاجة، ويصير بالقصد عبادة. فمن أخذ من المال ما يحتاج إليه في طريق الدين، وبذل ما فضل منه على إخوانه المؤمنين، فهو الذي أخذ من حية المال ترياقها واتقى سمها، فلا تضره كثرة المال. إلا أنه لا يتأتى ذلك إلا لمن كثر علمه واستحكمت في الدين قدمه. والعامي إذ يشتبه به في الاستكثار من المال، فشأنه شأن الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ بالحية ويتصرف بها ليأخذ ترياقها، فيقتدي به ويأخذ مستحسنا صورتها وشكلها ومستلينا جلدها فتقتله في الحال. إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف ذلك. وكما يمتنع أن يتشبه الأعمى بالبصير في التخطي قلل الجبال وأطراف البحار والطرق المشوكة، فيمتنع أن يتشبه العامي الجاهل بالعالم الكامل في الاستكثار من المال.
وصل الزهد ضد حب الدنيا والرغبة إليها هو (الزهد)، وهو ألا يريد الدنيا بقلبه ويتركها بجوارحه، إلا بقدر ضرورة بدنه. وبعبارة أخرى: هو الإعراض من متاع الدنيا وطيباتها، من الأموال والمناصب وسائر ما يزول بالموت.
وبتقرير آخر: هو الرغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة، أو عن غير الله، عدولا إلى الله، وهو الدرجة العليا. فمن رغب عن كل ما سوى الله حتى الفراديس، ولم يحب إلا الله، فهو الزاهد المطلق. ومن رغب عن حظوظ الدنيا خوفا من النار أو طمعا في نعيم الجنة، من الحور والقصور والفواكه والأنهار، فهو أيضا زاهد، ولكنه دون الأول. ومن ترك بعض حظوظ الدنيا دون بعض، كالذي يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسع في الأكل دون التجمل في الزينة، لا يستحق اسم الزاهد مطلقا.
وبما ذكر يظهر: أن الزهد إنما يتحقق إذا تمكن من نيل الدنيا وتركها، وكان باعث الترك هو حقارة المرغوب عنه وخساسته، أعني الدنيا بالإضافة إلى المرغوب إليه وهو الله والدار الآخرة، فلو كان الترك لعدم قدرته