بنصف يوم وهو خمسمائة عام. (والثالثة) إذا قال الغني: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقال الفقير مثل ذلك، لم يلحق الغني بالفقير وإن أنفق فيها عشرة آلاف درهم، وكذلك أعمال البر كلها، فرجع إليهم، فقالوا رضينا ".
وقال آخرون: الثاني أفضل، لأن الغنى من صفات الربوبية، والفقر من لوازم العبودية، ووصف الحق أفضل من وصف العبد.
(وأجيب عنه) بأن غنى الواجب سبحانه ليس بالأسباب والأغراض، وغنى العبد بهما، إذ هو غني بوجود المال ومفتقر إلى بقائه، فأنى يكون الغنى الذي يتصف العبد به من أوصاف الربوبية، نعم الغنى بمعنى الاستغناء من وجود المال وعدمه جميعا بأن يستوي كلاهما عنده يشبه أوصاف الحق، إلا أنك قد عرفت أنه نوع من الفقر، وبأن التكبر من أوصاف الربوبية، فينبغي أن يكون أفضل من التواضع، مع أن الأمر ليس كذلك، بل الحق إن الأفضل للعبد إنما هو صفات العبودية كالخوف والرجاء، إذ صفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها، ولذلك قال الله سبحانه: " والعظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ". وعلى هذا فالفقر أفضل من الغنى.
والحق أن ترجيح واحد من صفات الربوبية وصفات العبودية على الآخر للعبد على الإطلاق غير صحيح، إذ كما ينتقض ترجيح الأولى على الثانية بالتكبر ينتقض العكس بالعلم والمعرفة والجهل والغفلة، فإن العلم من صفات الربوبية، والجهل من صفات العبودية، مع أن الأول أفضل من الثاني ضرورة.
والحق أن الأفضل من الفقر والغنى ما لا يشغل العبد عن الله، فإن كان الفقر يشغله فالغنى أولى به، وإن كان الغنى يشغله عن الله فالفقر أولى به، وذلك لأن الغنى ليس محذورا بعينه، بل لكونه عائقا عن الوصول إلى الله، والفقر ليس مطلوبا لذاته، بل لعدم كونه عائقا عن الله، وليس مانعية الأول وعدم مانعية الثاني كليا، إذ رب فقير يشغله الفقر عن المقصد وكم من غني لا يصرفه الغنى عنه، إذ الشاغل ليس إلا حب الدنيا، لمضادته حب الله تعالى، والمحب للشئ مشغول به، سواء كان في وصاله أو في فراقه.