افترسته السباع، وبعضهم مات في الأوحال، وبعضهم هلك من الندامة والحسرة والغصة. وأما من بقي على شاطئ البحر فمات جوعا، وأما من وصل إلى المركب مثقلا بما أخذه، فشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيق عليه مكانه، فلم يلبث أن ذبلت ما أخذه من الأزهار، وعفنت الثمار، وكمدت ألوان الأحجار، فظهر نتن رائحتها، فتأذى من نتن رائحتها ولم يقدر على إلقائها في البحر لصيرورتها جزءا من بدنه، وقد أثر فيه ما أكل منها، ولم ينته إلى الوطن إلا بعد إحاطة الأمراض والأسقام عليه لأجل ما لم ينفك عنه من النتن، فبلغ إليه سقيما مدنفا، فبقي على سقمه أبدا، أو مات بعد مدة. وأما من رجع إلى المركب بعد تضيق المكان، فما فاته إلا سعة المحل، فتأذى، بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ومن رجع إليه أولا ووجد المكان الأوسع فلم يتأذ من شئ أصلا ووصل إلى الوطن سالما. فهذا مثال أصناف أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم وطنهم الحقيقي، وغفلتهم عن عاقبة أمرهم. وما أقبح بالعاقل البصير أن تغره بأحجار الأرض وهشيم النبت،: مع مفارقته عند الموت وصيرورته كلا ووبالا عليه.
فصل عاقبة حب الدنيا وبغضها إعلم أنه لا يبلغ مع العبد عند الموت إلا صفاء القلب، أعني ظهارته عن أدناس الدنيا وحبه لله وأنسه بذكره، وصفاء القلب وطهارته لا يحصل إلا بالكف عن شهوات الدنيا، والحب لا يحصل إلا بالمعرفة، والمعرفة لا تحصل إلا بدوام الفكرة، والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله والمواظبة عليه، وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت، وهي الباقيات الصالحات.
أما طهارة القلب عن أدناس الدنيا، فهي الجنة بين العبد وبين عذاب الله، كما ورد في الخبر: " إن أعمال العبد تناضل عنه، فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه، وإذا جاء من قبل يديه جاءت الصدقة تدفع عنه... " الحديث.