الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك، بل حق الزاهد ألا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلا، فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع عنه الأذى ولو كان بين الكفار فكيف بين المسلمين.
وأما التوهمات والتقديرات التي تخرج إلى الزيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة، إذ من طلب الجاه أيضا لم يخل عن أذى في بعض الأوقات فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه، فإذن طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلا واليسير منه داع إلى الكثير وضراوته أشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره، نعم ما أعطاه الله لبعض عبيده من دون سعيه في طلبه لنشر دينه أو لاتصافه ببعض الكمالات المختصة لحصول منزلة له في القلوب، فليس به بأس ولا ينافي الزهد، فإن جاء رسول الله (ص) كان أوسع الجاه مع كونه أزهد الناس.
والحق كما تقدم أن الجاه كالمال في نفي البأس من قدر يضطر إليه الإنسان إذا وقع في زمان أو بلد توقف أمر معيشته عليه. فالقدر الضروري منهما غير محذور وغير مناف للزهد، والزائد على الحاجة سم قاتل، فلا ينبغي أن ينسب المقتصر على الضرورة إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدين، لأنه من شرطه والشرط من جملة المشروط. ويدل عليه ما روي أن إبراهيم عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرض شيئا فلم يقرضه، فرجع مهموما، فأوحى الله تعالى إليه: (لو سألت خليلك لأعطاك)، فقال يا رب: (عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها)، فأوحى الله إليه:
(ليس الحاجة من الدنيا) ويدل عليه أيضا كلام الصادق عليه السلام مع سفيان الثوري كما أورده بطوله شيخنا الأقدم رحمه الله في جامعه الكافي.
فإذن قدر الحاجة من الدين وما وراءه وبال في الآخرة، بل في الدنيا أيضا، ويعرف ذلك بالتأمل في أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال وجمعه وحفظه وتحمل الذل فيه، وغاية سعادته أن يتركه لورثته، فيأكلونه وهم أعداؤه، أو يستعينون به على المعصية، فيكون معينا لهم عليها، ولذلك شبه جامع الدنيا وتابع الشهوات بدود القز، لا يزال ينسج