بالكل، فلا حسد بين العارفين ولا بين أهل العليين، لعدم ضيق ومزاحمة في المعرفة ونعيم الجنة، ولذا قال الله سبحانه فيهم:
" ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " (13).
بل الحسد من صفات المسجونين في سجن السجين.
فيا حبيبي، إن كنت مشفقا على نفسك، طالبا لعمارة رمسك، فاطلب نعمة لا مزاحمة فيها، ولذة لا مكدر لها. وما هي إلا لذة معرفة الله وحبه وأنسه، والانقطاع إلى جناب قدسه، وإن كنت لا تلتذ بذلك، ولا تشتاق إليه، وتنحصر لذاتك بالأمور الحسية والوهمية، فاعلم أن جوهر ذاتك معيوب، وعن عالم الأنوار محجوب، وعن قريب تحشر مع البهائم والشياطين وتكون مغلولا معهم في أسفل السافلين. ومثلك في عدم درك هذه اللذة يختص بإدراكها رجال أصحاء. فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها:
" رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " (14).
ولا يشتاق غيرهم إليها، إذ الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك ومن لم يدرك كان مطرودا عن العليين، ممنوعا عن مجاورة المقربين، محبوسا مع المحرومين في أضيق دركات السجين:
" ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " (15).
فصل علاج الحسد لما علم أن الحسد من الأمراض المهلكة للنفوس، فأعلم أن أمراض النفوس لا تداوي إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد أن تعرف أنه يضرك في الدين والدنيا، ولا يضر محسودك فيهما، بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفت ذلك عن بصيرة وتحقيق، ولم تكن عدو نفسك لا صديق