فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه " (42).
وقوله (ع) (الزهد في الدنيا ثلاثة أحرف: زاء وهاء ودال أما الزاء فترك الزينة وأما الهاء فترك الهوى وأما الدال فترك الدنيا ".
(الخامسة) أن يترك جميع ما سوى الله ويزهد فيه حتى في بدنه ونفسه أيضا بحيث كان ما يصحبه ويتركه في الدنيا الجاء وإكراها من دون استلذاذ وتمتع به، وإلى هذه الدرجة أشار مولانا الصادق (ع) في كلامه المنقول سابقا (ص 48) حيث قال: " الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار وهو تركك كل شئ يشغلك عن الله من غير تأسف على فوتها ولا إعجاب في تركها ولا انتظار فرج منها ولا طلب محمدة عليها ولا عوض منها بل يرى فوتها راحة وكونها آفة " إلى آخر الحديث (43).
ثم الالتفات إلى بعض ما سوى الله والاشتغال به ضرورة، كضروري الأكل والملبس ومخالطة الناس ومكالمتهم وأمثال ذلك، لا ينافي هذه المرتبة من الزهد، إذ معنى الانصراف من الدنيا إلى الله تعالى إنما هو الإقبال بكل القلب إليه تعالى ذكرا وفكرا، وهذا لا يتصور بدون البقاء إلا بضرورات المعيشة فمتى اقتصر من الدنيا عليها قصدا لدفع المهلكات عن البدن والاستعانة بالبدن على العبادة وسائر ما يقربه إلى الله لم يكن مشتغلا بغير الله، إذ ما لا يتوصل إلى شئ إلا به فهو منه، فالمشتغل بعلف دابته في طريق الحج ليس معرضا عن الحج، ولكل ينبغي أن يكون البدن في طريق الله مثل الدابة في طريق الحج، فكما أن قصدك من تهيئة ما تحتاج إليه دابتك دفع المهلكات عنها حتى تسير بك إلى مقصدك دون تنعمها، فكذلك ينبغي أن يكون قصدك من الأكل والشرب واللباس والسكنى صيانة بدنك عما يهلك من الجوع والعطش والحر والبرد فتقتصر على قدر الضرورة وتقصد به التقوى على طاعة الله دون التلذذ والتنعم، وذلك لا ينافي الزهد بل هو شرطه، ثم ترتب التلذذ على ذلك لا يضرك إذا لم يكن مقصودا