من دون صرف قلوبهم إليها، حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها، ومن جهل سنة الله فيها، ظن أنها مملوكة له، فيتعلق بها قلبه، فلما أخذت منه عظمت بليته واشتدت مصيبته.
وفي اغترار الخلق بها وضعف إيمانهم بقوله تعالى في تحذيره إياهم غوائلها: كمفازة غبراء لا نهاية لها، سلكوها قوم وتاهوا فيها بلا زاد وماء وراحلة، فأيقنوا بالهلاك، فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم رجل وقال أرأيتم إن هديتكم إلى رياض خضر وماء رواء ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك في شئ. فأخذ منهم عهودا ومواثيق على ذلك، فأوردهم ماء رواء ورياضا خضراء، فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: الرحيل! قالوا: إلى أين؟
قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم. فقال أكثرهم:
لا نريد عيشا خيرا من هذا، فلم يطيعوه. وقالت طائفة - وهم الأقلون -:
ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله ألا تعصوه، وقد صدقكم في أول حديثه؟ فوالله إنه صادق في هذا الكلام أيضا! فاتبعه هذا الأقل، فذهب فيهم إلى أن أوردهم في ماء ورياض أحسن بمراتب شتى مما كانوا فيه أولا، وتخلف عنه الأكثرون، فبدرهم عدو، فأصبحوا من بين قتيل وأسير.
تذنيب تشبيهات الدنيا وأهلها قد شبه بعض الحكماء حال الإنسان واغتراره بالدنيا، وغفلته عن الموت وما بعده من الأهوال، وانهماكه في اللذات العاجلة الفانية الممتزجة بالكدورات: بشخص مدلي في بئر، مشدود وسطه بحبل، وفي أسفل ذلك البئر ثعبان عظيم متوجه إليه، منتظر سقوطه، فاتح فاه لالتقامه، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيض وأسود، لا يزالان يقرضان ذلك الحبل شيئا فشيئا، ولا يفتران عن قرضه آنا من الآنات، وذلك الشخص، مع أنه يرى ذلك الثعبان ويشاهد انقراض الحبل آنا فآنا، قد أقبل على قليل عسل قد لطخ به جدار ذلك البئر وامتزج بترابه واجتمعت عليه زنابير كثيرة، وهو مشغول بلطعة منهمك فيه، ملتذ بما أصاب منه مخاصم