بلغ عمره مائتي سنة عن الدنيا، فقال: " سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يوم فيوم، وليلة فليلة، يولد ولد، ويهلك هالك، فلولا المولود باد الخلق، ولولا الهالك لضاقت الدنيا بمن فيها "، فقال له الأمير: سل ما شئت قال: " أريد منك أن ترد علي ما مضى من عمري، وتدفع عني ما حضر من أجلي "، قال: " لا أملك ذلك، قال: " فلا حاجة لي عليك ".
والأخبار والآثار في ذم الدنيا وحبها، وفي سرعة زوالها وعدم الاعتبار بها، وفي هلاك من يطلبها ويرغب إليها، وفي ضديتها للآخرة، أكثر من أن تحصى. وما ورد في ذلك من كلام أئمتنا الراشدين، (لا) سيما عن مولانا أمير المؤمنين - صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين - فيه بلاغ لقوم زاهدين. ومن تأمل في خطب علي (ع) ومواعظه - كما في نهج البلاغة وغيره - يظهر له خساسة الدنيا ورذالتها. وقضية السؤال والجواب بين روح الأمين ونوح في كيفية سرعة زوال الدنيا مشهورة، وحكاية مرور روح الله على قرية هلك أهلها من حب الدنيا معروفة (23).
ولعظم آفة الدنيا وحقارتها ومهانتها عند الله، لم يرضها لأحد من أوليائه، وحذرهم عن غوائلها، فتزهدوا فيها وأكلوا منها قصدا، وقدموا فضلا.
أخذوا منها ما يكفي، وتركوا ما يلهي. ولبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام ما سد الجوع. نظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية، وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا منها كزاد الراكب، فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم، فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم. صبروا قليلا ونعموا طويلا.
فصل خسائس صفات الدنيا إعلم أن للدنيا صفات خسيسة قد مثلت في كل صفة بما تماثله فيها:
فمثالها في سرعة الفناء والزوال وعدم الثبات: مثل النبات الذي اختلط به ماء السماء فاخضر، ثم أصبح هشيما تذروه الرياح، أو كمنزل