أو يكون وجود المال أحب إليه من عدمه، ولكن لم يبلغ حبه له حدا يبعثه على طلبه، بل إن أتاه بلا طلب أخذه وفرح به، وإن افتقر إلى سعي في طلبه لم يشتغل به، ويسمى هذا فقيرا (قانعا).
أو يكون بحيث لا يحبه ولا يرغب فيه، ويكره وجوده ويتأذى به، ولو أتاه هرب منه، مبغضا له ومحترزا عن شره، ويسمى هذا فقيرا (زاهدا). فإعراضه عنه وعدم سعيه في محافظته وضبطه لو وجده، إن كان لخوف العقاب فهو (فقر الخائفين). وإن كان لشوق الثواب فهو (فقر الراجين). وإن كان لعدم التفاته اللازم لإقباله على الله تعالى بشراشره من دون غرض دنيوي أو أخروي فهو (فقر العارفين).
أو يكون بحيث لا يحبه حبا يفرح بحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه، بل يستوي عنده وجوده وعدمه، فلا يفرح بحصوله ولا يتأذى بفقده، بل كان راضيا بالحالتين على السواء، وغنيا عن دخوله وبقائه وخروجه من يده، من غير خوف من الاحتياج إذا فقد، كالحريص والقانع ولا حذار من شره وأضراره إذا وجد كالزاهد. فمثله لو كانت أموال الدنيا بأسرها في يده لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله لا في يد نفسه، فلا تفريق بين أن تكون في يده أو في يد غيره، فيكون بحيث يستوي عنده المال والهواء المخلوق في الجو، فكما أن كثرة الهواء في جواره لا يؤذيه ولا يكون قلبه مشغولا بالفرار عنه ولا يبغضه بل يستنشق منه بقدر الضرورة ولا يبخل به على أحد، فكذلك كثرة المال لا يؤذيه ولا يشغل قلبه، ويرى نفسه وغيره فيه على السواء في المالكية.
ومثله ينبغي أن يسمى (مستغنيا راضيا)، لاستغنائه عنه وجودا وعدما، ورضائه بالحالتين من دون تفاوت، ومرتبته فوق الزاهد، إذ غاية درجة الزهد كمال الأبرار، وصاحب هذه المرتبة من المقربين فالزهد في حقه نقصان، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والسر فيه: أن الزاهد كاره للدنيا، فهو مشغول بالدنيا، كما إن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، سواء كان بالحب أو بالبغض. فكل ما سوى الله، كالرقيب الحاضر في مجلس جمع العاشق والمعشوق. فكما إن التفات قلب العاشق إلى الرقيب وبغضه وكراهته حضوره نقص في العشق