يمنع شيئا مما ينبغي ألا يمنع شرعا أو مروة أو عادة. ولا يمكن التنصيص على مقدار ذلك، فلعل حد البخل هو إمساك لغرض ذلك الغرض أهم من حفظ المال، وفي مقابله الجود والسخاء.
ثم من يؤدي الواجب ويحفظ العادة والمروة، ولكن له مال كثير قد جمعه، لا يصرفه إلى المحتاجين ولا ينفقه في الصدقات المستحبة ليكون له عدة على نوائب الزمان، وإن لم يكن بخيلا عند عوام الخلق، ولكنه بخيل عند أهل الفطانة والكياسة. إذ التبري عن البخل والاتصاف بصفة الجود والسخاء لا يتحقق عندهم ما لم يبذل زيادة على قدر واجب الشرع وواجب المروة والعادة اللائقة به، لطلب الفضيلة والثواب، ونيل الدرجات في الآخرة، وتختلف هذه الزيادة باختلاف مقدار ماله، وباختلاف حاجة المحتاجين وصلاحهم وورعهم. فاتصافه بالجود، بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير، وتختلف درجات ذلك. فاصطناع المعروف أمر وراء ما توجبه العادة والمروة، وهو الجواد بشرط أن يكون عن طيبة من النفس، ولا يكون لأجل غرض، من خدمة أو مدح وثناء. إذ من يبذل المال بعوض المدح والثناء أو غيره فليس بجواد، بل هو بياع يشتري المدح بماله، لكون المدح ألذ عنده من المال.
فالجواد هو بذل الشئ عن طيبة من القلب من غير غرض، وهذا وإن كان حقيقة، إلا أنه لا يتصور في غير حق الله، إذ ما من إنسان يبذل الشئ إلا لغرض، لكن إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة، ورفع الدرجات، واكتساب فضيلة الجود، وتطهير النفس عن رذيلة البخل، سمي جوادا، وإن كان غرضه شيئا من الأمور الدنيوية لم يسم جوادا.
تنبيه الإيثار أرفع درجات الجود والسخاء (الإيثار)، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه. قال الله سبحانه في معرض الثناء على أهل الإيثار:
" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " (87).