فصل لا تنحصر الغيبة باللسان إعلم أن الغيبة لا تنحصر باللسان، بل كل ما يفهم نقصان الغير، ويعرف ما يكرهه فهو غيبة، سواء كان بالقول أو الفعل، أو التصريح أو التعريض، أو بالإشارة والايماء أو بالغمز والرمز، أو بالكتابة والحركة ولا ريب في أن الذكر باللسان غيبة محرمة، لتفهيمه الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، لا لكون المفهم والمعرف لسانا، فكل ما كان مفهما ومعرفا فهو مثله.
فالغيبة تتحقق بإظهار النقص بالفعل والمحاكاة، كمشية الأعرج، بل هو أشد من الغيبة باللسان، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم منه، وبالإيماء والإشارة، وقد روي: " أنه دخلت امرأة على عائشة، فلما ولت، أومأت بيدها أنها قصيرة. فقال رسول الله (ص): قد اغتبتها ".
وبالكتابة إذ القلم أحد اللسانين، وبالتعويض، كأن يقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، والتبذل في طلب الجاه والمال، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء، ونسأله أن يعصمنا منه، معرضا في كل ذلك بمن ارتكب ذلك، فيذكره بصيغة الدعاء. وربما قدم مدح من يريد غيبته، ثم اتبعه بإظهار عيبه، كأن يقول: لقد كان فلان حسن الحال ولكنه ابتلى بما ابتلى به كلنا من سوء الحال، وهو جمع بين الرياء والغيبة، ومدح نفسه بالتشبه بالصلحاء في ذم أنفسهم.
ومن المغتابين المنافقين من يظهر في مقام غيبة مسلم الاغتمام والحزن من سوء حاله، كأن يقول: لقد ساءني ما جرى على صديقنا فلان من الإهانة والاستخفاف، أو ارتكابه معصية كذا، فنسأل الله أن يجعله مكرما أو يصلح حاله، أو يقول: قد ابتلي ذلك المسكين بآفة عظيمة، تاب الله علينا وعليه. وهو كاذب في ادعائه الحزن والكآبة، وفي إظهار الدعاء، إذ لو اغتم لاغتم بإظهار ما يكرهه أيضا، ولو قصد الدعاء لأخفاه في خلواته فإظهار الحزن والدعاء ناش عن خبث سريرته، وهو يظن أنه ناش عن صفاء طويته. هكذا يلعب الشيطان بمن ليس له قوة البصيرة بمكائد اللعين وتلبيساته، فيسخر بهم ويضحك عليهم، ويحبط أعمالهم بمكائده، وهم