تنبيه اللسان أضر الجوارح إعلم أن أكثر ما تقدم من الرذائل المذكورة في هذا المقام: من الكذب والغيبة، والبهتان، والشماتة، والسخرية، والمزاح وغيرها، وفي المقام الثالث - أعني التكلم بما لا يعني والفضول والخوض في الباطل - من آفات اللسان وهو أضر الجوارح بالانسان، وأعظمها إهلاكا له، وآفاته أكثر من آفات سائر الأعضاء، وهي وإن كانت من المعاصي الظاهرة، إلا أنها تؤدي إلى مساوئ الأخلاق والملكات. إذ الأخلاق إنما ترسخ في النفس بتكرير الأعمال، والأعمال إنما تصدر من القلب بتوسط الجوارح، وكل جارحة تصلح لأن تصدر منها الأعمال الحسنة الجالبة للأخلاق الجميلة، وأن تصدر منها الأعمال القبيحة المورثة للأخلاق السيئة، فلا بد من مراعاة القلب والجوارح معا بصرفهما إلى الخيرات ومنعهما من الشرور. وعمدة ما تصدر منه الذمائم الظاهرة المؤدية إلى الرذائل الباطنية هو اللسان، وهو أعظم آفة للشيطان في استغواء نوع الإنسان، فمراقبته أهم، ومحافظته أوجب وألزم. والسر فيه - كما قيل -: إنه من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه وإن كان صغيرا جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذ لا يتبين الإيمان والكفر إلا بشهادته، ولا يهتدي إلى شئ من أمور النشأتين إلا بدلالته، وما من موجود أو معدوم إلا وهو يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، إذ كل ما يتناوله العلم يعبر عنه اللسان إما بحق أو باطل، ولا شئ إلا والعلم يتناوله.
وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، إذ العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء، واللسان رحب الميدان وسيع الجولان، ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى ولا حد، فله في الخير مجال رحب، وفي الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وإهماله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان، وأوقعه في أودية الضلالة والخذلان، وساقه الله شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى الهلاك والبوار، ولذلك قال سيد