يكف نفسه عنها بالمجاهدة والمشقة، وهذا هو التزهد. (الثانية) أن يترك الدنيا طوعا وسهولة من دون ميل إليها لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما يطمع فيه من لذات الآخرة، وهذا كالذي يترك درهما لأجل درهمين معاوضة فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى قليل انتظار، ومثله ربما أعجب بنفسه وبزهده لاحتمال أن يظن بنفسه أنه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا منه. (الثالثة) وهي أعلى الدرجات أن يترك الدنيا طوعا وشوقا ولا يرى أنه ترك شيئا، إذ عرف أن الدنيا لا شئ فيكون كمن ترك خنفساء وأخذ ياقوتة صافية حمراء، فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركا شيئا وسبب هذا الترك كمال المعرفة، فإن العارف على اليقين بأن الدنيا بالإضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخس من خنفساء بالنظر إلى ياقوتة، ومثل هذا الزاهد في أمن من خطر الالتفات إلى الدنيا، كما أن تارك الخنفساء بالياقوتة في أمن من طلب الإقالة في البيع.
وقد ذكر أرباب القلوب من أهل المعرفة أن مثل تارك الدنيا بالآخرة مثل من منعه عن باب الملك كلب يكون وفي بابه فألقى إليه لقمة خبز نالها من موائد الملك فشغله بنفسه ودخل الباب ونال غاية القرب من الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته، أفترى أنه يرى لنفسه عوضا عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى كلب في مقابلة ما يناله مع كون هذه اللقمة أيضا من الملك.
فالشيطان كلب على باب الله يمنع الناس من الدخول، مع أن الباب مفتوح والحجاب مرفوع والدنيا كلقمة خبز إن أكلها فلذتها في حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع ثم يبقى ثقله في المعدة ثم ينتهي إلى النتن والقذر ويحتاج إلى إخراجه، فمن تركها لينال عز الملك كيف يلتفت إليها. ولا ريب في نسبة الدنيا لكل شخص أعني ما يسلم له منها وإن عمر ألف سنة بالإضافة إلى نعيم الآخرة أقل من لقمة بالإضافة إلى ملك الدنيا، إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي، والدنيا متناهية، ولو كانت تتمادى ألف ألف سنة صافية عن كل كدورة لكان لا نسبة لها إلى الأبد، فكيف ومدة العمر قصيرة ولذاتها مكدرة غير صافية فأي نسبة لها إلى نعيم الأبد.
* * *