هذه الدنيا على سبيل من قد مضى، ممن كان أطول منكم أعمارا، وأشد منكم بطشا، وأعمر ديارا وأبعد آثارا، فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها، وأجسادهم بالية، وديارهم على عروشها خاوية، وآثارهم عافية، استبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة، فمحلها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل عمارة موحشين، وأهل محلة متشاغلين، لا يستأنسون بالعمران، ولا يتواصلون تواصل الجيران والأخوان، على ما بينهم من قرب الجوار ودنو الدار، وكيف يكون بينهم تواصل، وقد طحنهم بكلكله البلاء، وأكلتهم الجنادل، والثرى، وأصبحوا بعد الحياة أمواتا، وبعد نضارة العيش رفاتا، فجع بهم الأحباب، وسكنوا تحت التراب، وظعنوا فليس لهم إياب، هيهات هيهات!
" كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " (19).
فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة في دار المثوى، وارتهنتم في ذلك المضجع، وضمكم ذلك المستودع، وكيف بكم لو عاينتم الأمور، وبعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل، فطارت القلوب لإشفاقها منم سالف الذنوب، وهتكت عنكم الحجب والأستار، فظهرت منكم العيوب والأسرار، هنا لك.
" تجزى كل نفس بما كسبت " (20).
وقال أيضا عليه السلام في بعض خطبه: " أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم، وإن كنتم لا تحبون تركها، المبلية أجسامكم، وأنتم تريدون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقا، وكأنهم قد قطعوه، وأفضوا إلى علم، فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهي إلى الغاية، وكم عسى أن يبقى من له يوم في الدنيا، وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها، فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال، عجبت لطالب الدنيا والموت