وأما الحب والأنس، فهما يوصلان العبد إلى لذة المشاهدة واللقاء.
وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يصل صاحب الصفات الثلاث بعد موته غاية البهجة ونهاية اللذة بمشاهدة جمال الحق، ولا يكون القبر عليه روضة من الرياض الخلد، ولم يكن له إلا محبوب واحد، وكانت العوائق تعوقه عن الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله، وبالموت ارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه، فقدم عليه مسرورا سالما من الموانع آمنا من الفراق؟
وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذبا ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصبت منه وحيل بينه وبينها، وسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه؟ وليس الموت عدما، إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله، فإذن سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث، وهي:
الذكر، والفكر، والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها. وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، وصحة البدن لا تنال إلا بالقوت والملبس والمسكن، ويحتاج كل واحد إلى أسباب، فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مزرعة الآخرة، وإن أخذ ذلك على قصد التنعم وحظ النفس صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها. إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الله في الآخرة، وسمي ذلك حراما، وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلى ويعرضه لطول الحساب، ويسمى ذلك حلالا. والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضا عذاب، فمن نوقش في الحساب عذب، ولذلك قال رسول الله (ص): " في حلالها حساب وفي حرامها عقاب ". بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت عن الدرجات العلى في الجنة وما يرد على القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لابقاء لها، هو أيضا عذاب.
ويرشدك إلى ذلك حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك، وقد سبقوك إلى السعادات الدنيوية، كيف ينقطع قلبك عليها حسرات، مع علمك بأنها سعادات متصرمة لا بقاء لها، ومنغصة بكدورات لا صفاء لها، فما حالك ج: 2