في فوات سعادات لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الأذهان والدهور دون غايتها؟ وكل من تنعم في الدنيا، ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو بشربة ماء بارد، فهو ينقص من حظه في الآخرة، والتعرض لجواب السؤال فيه ذل، وحذر، وخوف، وخطر، وخجل، وانكسار، ومشقة، وانتظار، وكل ذلك من نقصان الحظ.
فالدنيا - قليلها وكثيرها، حلالها وحرامها - ملعونة، إلا ما أعان على تقوى الله، فإن ذلك القدر ليس من الدنيا، وكل من كانت معرفته أقوى وأتم كان حذره من نعيم الدنيا أشد وأعظم، حتى أن عيسى (ع) وضع رأسه على حجر لما نام ثم رمى به، إذ تمثل له إبليس وقال: رغبت في الدنيا. وحتى أن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس من لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتحانا وشدة، فإن الصبر من لذيذ الأطعمة مع وجودها أشد. ولذا زوى الله تعالى الدنيا على نبينا (ص) فكان يطوي أياما، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع، ولذا سلط الله المحن والبلاء على الأنبياء والأولياء، ثم الأمثل فالأمثل في درجات العلى. كل ذلك نظرا لهم وامتنانا عليهم، ليتوفر من الآخرة حظهم، كما يمنع الوالد المشفق ولده لذائذ الفواكه والأطعمة ويلزمه القصد والحجامة، شفقة عليه وحبا له لا بخلا به عليه. وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فليس من الدنيا.
ثم الأشياء على أقسام ثلاثة:
(الأول) ما لا يتصور أن يكون لله، بل من الدنيا صورة ومعنى، وهي أنواع المعاصي والمحظورات وأصناف التنعم بالمباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة على الإطلاق.
(الثاني) ما صورته من الدنيا، كالأكل والنوم والنكاح وأمثالها، ويمكن أن يجعل معناه لله، فإنه يمكن أن يكون المقصود منه حظ النفس، فيكون معناه كصورته أيضا من الدنيا، ويمكن أن يكون المقصود منه الاستعانة على التقوى، فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا، قال رسول الله (ص): " من طلب من الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله