ثم استدل القاضي على مذهبه بوجوه نشير إلى بعضها:
قال: والذي يدل على ذلك:
الأول: أن نفصل بين المحسن والمسئ، وبين حسن الوجه وقبيحه، فنحمد المحسن على إحسانه وندم المسئ على إساءته. ولا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه وقبيحه، ولا في طول القامة وقصرها، حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لم طالت قامتك ولا للقصير لما قصرت.
كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت وللكاذب لم كذبت، فلولا أن أحدهما متعلق بنا وموجود من جهتنا بخلاف الآخر، وإلا لما وجب هذا الفصل، ولكان الحال في طول القامة وقصرها كالحال في الظلم والكذب وقد عرف فساده.
الثاني: إنه يلزم قبح مجاهدة أهل الروم وغيرهم من الكفار لأن للكفرة أن يقولوا: إن كان الجهاد على ما خلق فينا وجعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته والانفكاك عنه فذلك جهاد لا معنى له.
الثالث: ما ثبت من أن العاقل لا يشوه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته. وإذا وجب ذلك في الواحد منا فلأن يجب في حق القديم تعالى وهو أحكم الحاكمين أولى وأحرى. وعلى مذهبهم (المجبرة) إنه تعالى شوه نفسه وسواء الثناء عليه وأراد منهم كل ذلك تعالى عما يقولون.
الرابع: إن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور، فلو كان تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما وجائرا تعالى الله عن ذلك.
الخامس: الاستدلال بعدة من الآيات منها قوله: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) *. فقد نفى سبحانه التفاوت عن خلقه، وليس المراد التفاوت في الخلق لوجوده فيه، بل المراد التفاوت من جهة الحكمة. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره.