ولكن ليس تأثيرها إلى درجة يسلب الاختيار من الإنسان إذ لو صح هذا، لزم بطلان جهود المربين، وصيرورة أعمال المصلحين هواء في شبك. بل هذه العوامل لا تعدو عن كونها مقتضيات وأرضيات تطلب أمورا حسب طبيعتها، ولكن وراءها حرية الإنسان واختياره. وقد خلط المادي في هذه النظرية بين الايجاب والاقتضاء، والعلة التامة والعلة الناقصة. ولأجل إيضاح مدى تأثير هذه العوامل نبحث عن كل واحدة منها على وجه الاجمال.
أما الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، ولكن لا يعلم حدودها سعة وضيقا، فلا شك أن الأولاد يرثون الصفات الخلقية والروحية على وجه الاجمال ولكن ما يتركه الآباء والأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:
1 - ما يفرض على الأولاد فرضا لا يمكن إزالته مثل الحمق، والبلادة، والعقل والذكاء، والجبن والشجاعة وغير ذلك مما لا يمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية والإصلاحية.
2 - ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية والاقتضاء، وبصورة تأثير العلة الناقصة، فيمكن إزالة آثاره الوسائل التربوية والطرق العلمية وذلك كالأمراض الموروثة كالسل وغيره، ومثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان والتمرد فإنه يمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان وعقليته، وإيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء والأمهات مصيرا لازما وقضاء حتما، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان واختياره وسائر العوامل التربوية المغيرة لأرضية الوراثة.
وأما التعليم والثقافة، فلا شك في تأثيرهما في شخصية الإنسان ولتأثيرهما شواهد جمة في التاريخ، ولكن ليس دور التعليم في تكوين الشخصية على وجه الايجاب، فله قبول ما يلقى إليه من المفاهيم والتعاليم، كما أن له رفضها، ولأجل ذلك يختلف خريجو الثقافة الواحدة بين قابل لما أوحته إليه، ورافض له. وهذا دليل على أن الثقافة لا تؤثر إلا بشكل غير إيجابي.