والإنسان من مصاديق تلك الضابطة في أفعاله الاختيارية (1).
وإليك بيانه: إن ما يصدر من الإنسان من الأفعال على قسمين، قسم منه يصدر عن طريق الآلات والأسباب الجسمانية كالخياطة والبناء، وهذا القسم من الفعل يكون مسبوقا بالتصور والتصديق والشوق إلى الفعل والعزم والجزم الذي يلازم تحريك العضلات نحو المراد. وهذا ما يسمى بالأفعال الجوارحية.
وقسم يصدر منه بلا آلة بخلاقية منها، وهذا كالأجوبة التي تصدر من العالم النحوي الذي له ملكة علم النحو عند السؤال عن مسائله. فإن هذه الأجوبة تصدر واحدة بعد الأخرى لا بتصور ولا بتصديق ولا بشوق ولا بعزم سابق على الأجوبة. وليس صدور تلك الأجوبة عن النفس كصدور الأفعال الجوارحية من الأكل والشرب مسبوقة بمبادئها، بل هي تظهر في لوح النفس وتصدر عنها بدون هذه التفاصيل.
وهذه الأجوبة التي تعد صورا علمية، موجودة للنفس مخلوقة لها، خلقا اختياريا بحيث لو شاء ترك، مع أنها ليست مسبوقة بالإرادة ولا بمبادئها، بل كفى في كونها اختيارية كون النفس " فاعلا مختارا بالذات " بحيث تكون حقيقتها كونها مختارة، وكونها مختارة نفس حقيقتها.
وبذلك يظهر أن وزان الإرادة بالنسبة إلى النفس وزان الصور العلمية.
فكما أن صدور الصور العلمية لا يتوقف على المبادي السابقة، فكذلك ظهور الإرادة في الضمير.
وكما أن ظهور تلك الأجوبة، ظهور اختياري لدى النفس، فكذلك الإرادة، وليس مناط اختياريتها سبق الإرادة، لما عرفت من عدم كونها مسبوقة بها، بل الملاك في اختياريتها كون النفس فاعلا مختارا بالذات وليس الاختيار مفصولا عن ذاتها وهويتها.