وبعبارة ثانية: إذا كان هناك ما يقتضي وجوده، فإما أن يقتضي وجوبه أيضا أولا، فعلى الأول فقد وجب وجوده، وتثبت القاعدة، وعلى الثاني يعود السؤال بأنه إذا كان تطرق العدم أمرا ممكنا جائزا، فلماذا اتصف بالوجود دون العدم مع انفتاح طريق كل منهما، إذ المفروض أن العلة ما اقتضت وجوبه ولم تسد باب العدم على وجه القطع والبت، بل كان باب كل مفتوحا على الشئ وإن ترجح جانب الوجود، ولكنه لم يمتنع بعد الجانب الآخر، والأولوية العارضة لجانب الوجود غير كافية إذ المفروض أن طريق العدم معها بعد مفتوح، ومع ذلك اتصف بالوجود ولم يتصف بالعدم.
وعندئذ، ينطرح السؤال التالي:
لماذا تحقق هذا ولم يتحقق ذاك؟ ولأجل ذلك ذهب الحكماء إلى أن وجود الشئ رهن سد باب العدم على وجه القطع والبت واتصافه بالوجود على وجه الوجوب حتى ينقطع السؤال بأنه لم اتصف بهذا دون ذاك.
هذا برهان القاعدة، ورتب عليها القول بالجبر، لأن فعل العبد لا يصدر منه إلا بالوجوب، والوجوب ينافي الاختيار.
يلاحظ عليه: إن القاعدة قاعدة متقنة لا غبار عليها غير أن استنتاج الجبر من القاعدة أمر عجيب، لأنها لا تعطي أزيد من أن المعلول إنما يتحقق بالإيجاب والإلزام، وأما كون الفاعل، فاعلا موجبا (بالفتح) ومجبورا فلا يستفاد منها.
توضيح ذلك: إن الفاعل لو كان فاعلا طبيعيا غير شاعر ولا مختار، أو شاعرا غير مختار، يصدر الفعل منه بالوجوب مع امتناع العدم ويكون الفعل واجبا والفاعل موجبا (بالفتح). وأما إذا كان الفاعل مدركا ومختارا، فصدور الفعل منه يتوقف على اتصاف فعله بالوجوب، والعامل الذي يضفي هذا الوصف على المعلول هو نفس الفاعل، فهو باختياره وحريته يوصل الفعل إلى حد يكون صدوره عنه على نحو الوجوب واللزوم. فعندئذ يكون الفاعل المدرك المختار فاعلا موجبا أي معطيا الوجوب لفعله ومن هو كذلك