وعلى هذين الأساسين ربما يتصور أن تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموما، والأفعال الاختيارية للإنسان خصوصا، يجعل الإنسان مجبورا مضطرا متظاهرا بالحرية والاختيار، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل، أن هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة، فبما أن العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدرا لهذا الذنب، ولا يستطيع ن يتخلف عنه بأية قوة وقدرة، بل لا يستطيع أن يغير من كميته وكيفيته، إذ تخلفه نفس تخلف علم الله عن الواقع، وصيرورة علمه جهلا تعالى عنه.
أقول: إن هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيين الذين مالوا إلى الجبر، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة عن متعلقها ولكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.
والجواب عن ذلك: إن علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق، وإنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور والاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلا عن أن تريد، ويصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم ولكن لا بإرادة واختيار، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع وعدم تخلفه عنه قيد شعرة.
وإن كانت العلة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان فقد تعلق علمه على صدور أفعاله منه بتلك الخصوصيات وانصباغ فعله بصبغة الاختيار والحرية فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية، لكان علمه مطابقا للواقع غير متخلف عنه، وأما لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.