ثم إن المعرفة التي هي كمال حقيقي للانسان ليس كمال العلم وغايته، إذ لا يتصور كمال العلم ونهايته إلا للواجب تعالى، إذ كمال العلم إنما يتحقق بأمور ثلاثة:
الأول - أن يحيط بكل المعلومات، ولا يتحقق ذلك في علم البشر.
إذ ما أوتي من العلم إلا قليلا، بل العلم الذي يحيط بجميع المعلومات هو علم الله تعالى، وعلم العبد إنما يتحقق ببعض المعلومات، وكلما كانت معلوماته أكثر كان علمه أقرب إلى علم الله تعالى.
الثاني - أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به، ويكون المعلوم منكشفا واضحا في غاية الانكشاف والوضوح، بحيث لا يقبل انكشافا أتم منه.
وهذا أيضا غير ممكن التحقيق في حق الإنسان، إذ علمه لا يخلو عن كدرة وإبهام، بل الكشف التام الذي هو غاية الظهور والانجلاء مختص بعلم الله تعالى: إذ معلوماته مكشوفة بأتم أنواع الكشف على ما هي عليها، وعلم العبد له ببعض مراتب الانكشاف، فكلما كان أجلى وأوضح وأتقن وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفاته، كان أقرب إلى علم الله.
الثالث - أن يكون باقيا أبدا الآباد، بحيث لا يتغير ولا يزول. وهذا أيضا مختص بعلم الله تعالى، إذ علمه تعالى باق لا يتصور أن يختلف ويتغير ويزول وعلم الإنسان يتغير ويزول فكلما كان علمه بمعلومات لا تقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى علم الله تعالى.
هذا، ومن الكمالات للانسان: التحلي بفضائل الأخلاق والصفات، لإيجابها صفاء النفس المؤدي إلى البهجة الدائمة والحرية، أعني الخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر، تشبها بالملائكة الذين لا تستغرقهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب، إذ رفع آثار الشهوة الغضب من النفس كمال حقيقي، لأنه من صفات الملائكة، ومن صفات الكمال لله سبحانه عدم تطرق التغيير والتأثير على حريم كبريائه، فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله أقرب.
وأما القدرة، فقد قال بعض العلماء: " أما القدرة فليس فليس فيها كمال حقيقي للعبد، إذ القدرة الحقيقية لله، وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته، فهي حادثة بأحداث الله تعالى. نعم له كمال من جهة