الجاه مع المتواضعين له. ولا ينبغي للعاقل أن يترك بمثل ذلك الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها. ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي - كما سبق - صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده، وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، كما قال الله تعالى:
" بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " (23). وقال: " كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة " (24).
فمن هذه مرتبته، فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بمعرفة الآفات العاجلة، وهو أن يفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا فإن كل ذي محسود مقصود بالإيذاء، وخائف على الدوام على جاهه، ولا يزال في الاضطراب والخوف من أن تتغير منزلته في القلوب. مع أن قلوب الناس أشد تغيرا وانقلابا من القدر في غليانه، وهي مرددة بين الإقبال والإعراض، فكلما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له. والإشغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء اشتغال عن الله وتعرض لمقته في العاجل والأجل كل ذلك غموم عاجلة مكدرة للذة الجاه، فلا يبقى في الدنيا أيضا مرجوها بمخوفها، فضلا عما يفوت في الآخرة. فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا التفات له إلى الدنيا. فهذا هو العلاج العلمي وأما العلاج العملي: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بالأنس بضد الجاه الذي هو الخمول ويقنع بالقبول من الخالق، وأقوى العلاج لقطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى مواضع الخمول، لا مجرد الاعتزال في بيته في البلدة التي هو فيها مشهور، لأن المعتزل في بيته في البلدة التي هو فيها مشهور عند أهلها لا يخلو بسبب عزلته عن حب المنزلة التي تترسخ له في القلوب، فربما يظن أنه ليس محبا لذلك الجاه وهو مغرور، وإنما سكنت