بالتسخير والانقياد ينقطع بالموت، فمن ظن ذلك كمالا فقد جهل. فالخلق كلهم في غمرة هذا الجهل، فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال. ولما اعتقدوا كون ذلك كمالا أحبوه، ولما أحبوه طلبوه، ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه، فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله، أعني العلم والحرية كما يأتي. فهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون، وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى:
" المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا " (19).
فالعلم والحرية وفضائل الأخلاق هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالا للنفس بعد خراب البدن، والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب، وهو كما مثله الله تعالى، حيث قال:
" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض... " (20).
وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، وكل ما لا يقطعه الموت فهو من الباقيات الصالحات.
فقد ظهر أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال وهي لا أصل له، وإن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل، إلا قدر البلغة منها إلى الكمال الحقيقي.
وأما العلم، فلا ريب في كون ما هو حقيقة العلم كمالا حقيقيا، إذ الكمال الحقيقي هو الذي يقرب من يتصف به من الله ويبقى كمالا للنفس بعد الموت. ولا شك في أن العلم بالله وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السماوات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو المقرب للعبد