إلى الله، إذ هو علم ثابت لا يقبل التغيير والانقلاب، إذ معلوماته أزلية أبدية وليس لها تغيير وانقلاب، حتى يتغير العلم بتغيرها مثل التغيرات التي يتغير العلم بها بتغيرها وانقلابها، كالعلم بكون زيد في الدار.
فهو علم ثابت أزلا وأبدا من دون تغير واختلاف، كالعلم بجواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات. فهذا العلم - أعني معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله - هو الكمال الحقيقي الذي يبقى بعد الموت وينطوي فيه العلم بالنظام الجملي الأصلح وجميع المعارف المحيطة بالموجودات وحقائق الأشياء، إذ الموجودات كلها من أفعاله، فمن عرفها من حيث هي فعل الله ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة، كانت هذه المعرفة من تكملة معرفة الله التي تبقى كمالا للنفس بعد الموت، وتكون نورا للعارفين بعد الموت يسعى بين أيديهم وأيمانهم: " يقولون ربنا أتمم لنا نورنا "، وهي رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا، كما أن من معه سراج خفي، فإنه يجوز أن يصير ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه، فيكمل النور بذلك النور الخفي على سبيل الاستتمام، ومن ليس معه أصل السراج لا مطمع له في ذلك. فمن ليس له أصل معرفة الله لم يكن له مطمع في هذا النور، بل هو في " ظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض ".
وما عدا هذه المعرفة من المعارف، إما لا فائدة فيه أصلا، كمعرفة الشعر وأنساب العرب ومثلها، أو له منفعة في معرفة الله، كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار، ومعرفة طريق تزكية النفس التي تفيد استعدادا لقول الهداية إلى معرفة الله، كما قال تعالى:
" قد أفلح من زكاها " (21). وقال: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " (22).
فهو من حيث إنه وسيلة إلى معرفة الله وإلى تحصيل الحرية مما لا بد منه بالعرض.