للحياة وشفقته على نفسه يقدر طول الحياة وهجوم الحاجات، ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلك، فيطلب ما يدفع خوفه، وهو كثرة المال، حتى إن أصيب بطائفة من ماله يفزع إلى الأخرى.
وهذا خوف لا موقف له عند مقدار مخصوص من المال، ولذلك لم يكن لميله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا، ولذلك قال (ص): " منهومان لا يشبعان: منهوم العلم، ومنهوم المال ". ومثل هذه العلة تطرد في حب قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن، أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكنا، كان للنفس لذة وسرور بقيام المنزلة في قلوبهم، لما فيه من الأمن من هذا الخوف.
الثاني - أن الإنسان مركب من أصول مختلفة: هي القوة الشهوية، والقوة السبعية، والقوة الشيطانية، والروح الذي هو أمر رباني، ولذلك له ميل إلى صفات بهيمية، كالأكل والوقاع، وإلى صفات سبعية، كالقتل والإيذاء، وإلى صفات شيطانية، كالمكر والخديعة والإغواء، وإلى صفات ربوبية، كالعلم والقدرة والكبر والعز والفخر والاستعلاء. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال، والاستيلاء على جميع الأشياء بالغلبة، واستناد الكل إليه بالصدور منه والمعلولية.
وبالجملة: مقتضى الربوبية التفرد بالوجود والكمال ورجوع كل وجود وكمال إليه، إذ هو التام فوق التمام، ولا يتحقق ذلك إلا بالتفرد بالوجود والكمال والقدرة والاستيلاء على جميع ما عداه. إذ المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كانت معها شمس أخرى كان ذلك نقصانا في حقها، إذ لم تكن متفردة بكمال معنى الشمسية فإذا كان معنى الربوبية هو التفرد بالوجود والكمال، وكل إنسان كان فيه أمر رباني، فالتفرد بالوجود والكمال محبوب له بالطبع، وضده - أعني العبودية - قهر على نفسه، لأنه علم أن المتفرد بالوجود والكمال هو الله تعالى، إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته