من مفاخر الكون وحسنة من حسنات الزمان أو من غلطات الدهر كما يقال كان فقيها ماهرا في الدرجة العليا بين الفقهاء محدثا أصوليا مشاركا في جميع العلوم الاسلامية لم يدع علما من العلوم حتى قرأ فيه كتابا أو أكثر على مشاهير العلماء من النحو والصرف والبيان والمنطق واللغة والأدب والعروض والقوافي والأصول والفقه والتفسير وعلم الحديث وعلم الرجال وعلم التجويد وأصول العقائد والحكمة العقلية والهيئة والهندسة والحساب وغير ذلك كما يعلم مما يأتي في أحواله وفيمن قرأ عليهم من المشايخ ويقال ان السبب في قراءته علم التجويد ان الشيخ داود الأنطاكي الطبيب صلى خلفه فقال انا اقرأ منه فبلغه ذلك فقرأ علم التجويد وألف في كثير من هذه العلوم المؤلفات النافعة الفائقة. والفقه أظهر وأشهر فنونه وكتبه فيه كالمسالك والروضة مدار التدريس من عصره حتى اليوم ومحط أنظار المؤلفين والمصنفين ومرجع العلماء والمجتهدين وقد صحح كتب الحديث وقرأها واقرأها. وبلغ به علو الهمة إلى قراءة كتب العامة في جل الفنون ورواية أكثرها عن مؤلفيها بالإجازة وطاف البلاد لأجل ذلك كدمشق ومصر وفلسطين وبيت المقدس واستانبول وغيرها وفي الجميع يقرأ جملة من الفنون على علمائها وفي استانبول قرأ شطرا من معاهد التنصيص على مؤلفه السيد عبد الرحيم العابسي ونسخه بخطه وكل من قرأ عليهم من علماء العامة يكون له القبول التام عندهم والصداقة. وأخطأ من ظن المفسدة في ذلك فإنه ضم ما وجده نافعا من طريقتهم مما لم يتوسع فيه الامامية إلى طريقة الامامية كالدراية والشروح المزجية وتمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع الأحكام الشرعية كما يأتي ذكره في مؤلفاته. والشهيد الأول وان صنف القواعد فيما يشبه ذلك الا انه على طراز آخر فهو أول من صنف من الامامية في دراية الحديث سوى ما يحكى عن الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك من تأليفه فيه ما لا يشفي الغليل. اما المترجم فألف فيه الرسالة المشهورة وشرحها بشرح مبسوط جدا ونقل الاصطلاحات من كتب العامة وطريقتهم إلى كتب الخاصة ثم ألف بعده تلميذه الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي وبعده ولده الشيخ البهائي وهكذا وهو أول من وضع الشرح المزجي من علماء الإمامية ولم يكن ذلك معروفا عندهم فأراد حمية ان لا تكون مؤلفات الشيعة خالية منه مع أنه في نفسه شئ حسن فألف شرح الارشاد وبعده شروح اللمعة والألفية والنفلية وغيرها على هذا النحو. ولما رأى كتابي التمهيد والكوكب الدري كلاهما للأسنوي الشافعي أحدهما في القواعد الأصولية والاخر في القواد العربية وما يتفرع عليهما وليس لأصحابنا مثلهما ألف كتابه تمهيد القواعد وجمع بين ما في الكتابين في كتاب واحد على طرز عجيب كما يأتي تفصيله عند ذكر مؤلفاته. وتفرد بالتأليف في مواضيع لم يطرقها غيره أو طرقها ولم يستوف الكلام فيها مثل آداب المعلم والمتعلم فقد سبقه إلى ذلك المحقق الطوسي فصنف فيه رسالة صغيرة لا تبل الغليل وألف هو فيه منية المريد فلم يبق بعدها منية لمريد ومثل أسرار الصلاة والزكاة والصوم والحج واسرار معالم الدين والصبر على فقد الأحبة والأولاد والولاية ووظائف الصلاة القلبية وغير ذلك مما لم يسبق إليه.
وأفرد جملة من المسائل الفقهية وغيرها بالتأليف واستوفى الكلام عليها مثل صيغ العقود والايقاعات ونجاسة البئر وطلاق الغائب والنية والعدالة والحبوة وميراث الزوجة ومن أحدث في أثناء الغسل وحكم المقيمين في الاسفار والشاك في السابق من الحدث والطهارة وطلاق الحائض وتقليد الميت واصطلاحات المحدثين والغيبة وخصائص يوم الجمعة وألف في شرح أربعين حديثا إلى غير ذلك.
وارتفعت به همته إلى طلب التدريس في المدارس العامة فسافر إلى استانبول لذلك ونال قبولا تاما من أرباب الدولة وأعطي تدريس المدرسة النورية في بعلبك ولم يحتج إلى شهادة قاضي صيدا كما كان معمولا عليه في ذلك الوقت ولا يمكن اخذ التدريس بدونه وذلك بسبب تأليفه خلال 18 يوما رسالة في عشر مسائل من مشكلات العلوم وكان لهذه المدارس أوقاف تسلم إلى المدرس مدة تدريسه ليأخذ نماءها فأقام فيها خمس سنين يدرس في المذاهب الخمسة ويعاشر كل فرقة بمقتضى مذهبهم والحق ان ذلك اقتدار عظيم وعلو همة ما عليه من مزيد لا سيما مع شدة الخوف في تلك الاعصار بسبب التعصبات المذهبية.
وما ظنك برجل يؤلف مؤلفاته الجليلة الخالدة على مرور الدهور والأعوام في حالة الخوف على دمه لا يشغله ذلك عنها مع ما تقتضيه هذه الحالة من توزع الفكر واشتغال البال عن التفكير بمسألة من مسائل العلم يؤلفها بين جدران البيوت المتواضعة وحيطان الكروم لا في قصور شاهقة ورياض ناضرة ولا مساعد له ولا معين حتى على تدبير معاشه ونقل الحطب لدفئه وصنع طعامه ونوابغ علماء إيران يتمتعون بنضارة العيش ولهم الخدم والحشم وسعة المعاش حتى قيل إن الجواري التي في مطبخ المجلسي كان لباسها شالات الترم ومع هذا يقول الشيخ البهائي في كشكوله رحم الله أبي لو لم يأت إلى بلاد العجم لم ابتل بصحبة الملوك ولو ذاق الشيخ البهائي ما ذاقه الشهيد الثاني وأمثاله من علماء جبل عامل من مرارة العيش وجشوبة المطعم والملبس لقال وهو يذهب في ركاب الشاه عباس وأمره نافذ في مملكته وقبة قبرة تزار كما تزار قبور الأنبياء والأوصياء وتصرف الدولة الإيرانية في زماننا هذا على بنائها ستة ملايين تومان لقال رحم الله أبي الذي اتى بي من جبل عامل إلى بلاد العجم وخلصني ما يعانيه علماء جبل عامل من المشاق التي تنوء بحملها الجبال وإذا كانت الدولة الإيرانية صرفت على تعمير قبر الشيخ البهائي ستة ملايين تومان فهذه قبور أجلاء علماء جبل عامل الذين لا يقصرون عن الشيخ البهائي ان لم يزيدوا في جبع وغيرها مداس للاقدام وطريق للمارة وبعضها اخذه السيل وبعضها أشرف على الزوال أمثال صاحبي المعالم والمدارك والظهيري. وقبر السيد علي الصائغ في قرية صديق في وسط مزرع قد اخنى عليه الدهر وخيم عليه الهجران والنسيان وأشرف على الاندثار ولا يفكر أحد في صيانته وحفظه حقا ان جبل عامل مضيعة العلماء احياء وأمواتا.
ولقد عانى كاتب هذه السطور كثيرا من هذه المشاق فتضطرني الحال وانا في سن الشيخوخة إلى شراء حوائجي من السوق بنفسي والى غير ذلك من الأعمال البيتية ولا أزال وقد جاوزت الرابعة والثمانين من عمري أزاول ذلك واشتغل بالتأليف والتصنيف ليلي ونهاري ولا مساعد ولا معين الا الله تعالى.
وما ظنك برجل من أعظم العلماء وأكابر الفقهاء يحرس الكرم ليلا ويطالع الدروس وفي الصباح يلقي الدروس على الطلبة وكرمه الذي كان له في جبع معروف محله إلى الآن ويحتطب لعياله ليلا ويشتغل بالتجارة أحيانا فيتجر بالشريط ويحمله إلى البلاد النائية ويسافر به مع من لا يعرفون قدره ويباشر بناء داره ومسجده الذي هو إلى جنبها في قرية جبع وقد رأيتهما وداره