وفواضله العلمية الجامع في معارج الفضل والكمال والسعادة بين مراتب العلم والعمل والجلالة والكرامة والشهادة وفي روضات الجنات بعد اصلاح وحذف بعض عباراته المعروفة: لم ألف إلى هذا الزمان الذي هو سنة 1263 من العلماء الأجلة من هو بجلالة قدره وسعة صدره وعظم شانه وارتفاع مكانه وجودة فهمه وحسن سليقته واستواء طريقته ونظام تحصيله وكثرة أسانيده وجودة تصانيفه.
أحواله قال تلميذه ابن العودي في رسالته الآنفة الذكر: كان قد ضبط أوقاته ووزع أعماله عليها ولم يصرف لحظة من عمره الا في اكتساب فضيلة ووزع أوقاته على ما يعود نفعه عليه في اليوم والليلة اما النهار ففي تدريس ومطالعة وتصنيف ومراجعة واما الليل فله فيه استعداد كامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل هذا مع غاية اجتهاده في التوجه إلى مولاه وقيامه بأوراد العبادة حتى تكل قدماه وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته على أحسن نظام وقضاء حوائج المحتاجين بأتم قيام يلقى الأضياف بوجه مسفر عن كرم كانسجام الأمطار وبشاشة تكشف عن شميم كالنسيم المعطار يكاد يبرح بالروح واعز ما صرف همته فيه خدمة العلم وأهله فحاز الحظ الوافر لما توجه إليه بكله وكان مع علو رتبته وسمو منزلته على غاية من التواضع ولين الجانب ويبذل جهده مع كل وارد في تحصيل ما يبتغيه من المطالب إذا اجتمع بالأصحاب عد نفسه كواحد منهم ولم تمل نفسه بشئ إلى التميز عنهم حتى أنه كان يتعرض إلى ما يقتضيه الحال من الاشغال من غير نظر إلى حال من الأحوال ولا ارتقاب لمن يباشر عنه ما يحتاج إليه من الاشغال ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته انه كان ينقل الحطب على حمار في الليل لعياله ويصلي الصبح في المسجد ويشتغل بالتدريس بقية نهاره فلما شعرت منه بذلك كنت اذهب معه بغير اختياره وكنت استفيد من فضائله وارى من حسن شمائله ما يحملني على حب ملازمته وعدم مفارقته وكان يصلي العشاء جماعة ويذهب لحفظ الكرم ويصلي الصبح في المسجد ويجلس للتدريس والبحث كالبحر الزاخر ويأتي بمباحث عجز عنها الأوائل والأواخر وقد تفرد عن غيره بمنقبة وفضيلة جليلة وهي ان العلماء لم يقدروا على ترويج أمور العلم والتأليف والتصنيف حتى اتفق لهم من يقوم بما يحتاجون إليه اما ذو سلطان يسخره الله لهم أو بعض أهل الخير وكانوا آمنين ولهم وكلاء قائمون بمصالح معيشتهم بحيث لا يعرفون الا العلم وممارسته ولم يبرز لهم من المصنفات في الزمان الطويل الا القليل ومن التحقيقات الا اليسير وكان شيخنا المذكور يتعاطى جميع مهماته بقلبه وبدنه حتى لو لم يكن الا مهمات الواردين عليه ومصالح الضيوف لكفى مضافا إلى القيام بأحوال الأهل والعيال ونظام المعيشة وأسبابها من غير وكيل ولا مساعد يقوم بها حتى أنه ما كان يعجبه تدبير أحد في أموره ومع ذلك كان في غالب أوقاته في حالة الخوف على تلف نفسه وفي التستر والاختفاء الذي لا يسع الإنسان معه ان يفكر في مسالة من الضروريات البديهية ولا يحسن ان يعلق شيئا يقف عليه من بعده وقد برز منه مع ذلك من التصانيف والأبحاث والتحقيقات ما هو ناشئ عن فكر صاف ومغترف من بحر علم واف بحيث ان من تفكر في الجمع بين هذا وما ذكرناه تحير ولو بذل أحدنا مع قلة موانعه وتوفير دواعيه أوقاته جهده في كتابة مصنفاته لعجز عنها اه وببالي اني رأيت في الدر المنثور لسبطه انه كان يخدم أضيافه بنفسه وانه كان يتعاطى التجارة في الشريط ويسافر في تجارته هذه إلى الأماكن البعيدة. وفي أمل الآمل: اخبرني من أثق به انه خلف ألفي كتاب منها مائتا كتاب كانت بخطه من مؤلفاته وغيرها ومن عجيب امره برواية ابن العودي انه كان يكتب بغمسة واحدة في الدواة عشرين أو ثلاثين سطرا.
الموازنة بينه وبين الشهيد الأول الشهيد الأول أفقه وأدق نظرا وابعد غورا وأكثر وأمتن تحقيقا وتدقيقا يظهر ذلك لكل من تأمل تصانيفهما مع الاعتراف بجلالة قدر الشهيد الثاني وعظمة شانه وعلو مقامه.
أحواله في طلبه العلم قال ابن عدي: رأيت قطعة بخطه في تاريخ يتضمن مولده وجملة من أحواله جاء فيها: هذه جملة من أحوالي وتصرف الزمان بي في عمري وتاريخ بعض المهمات التي اتفقت لي:
كان مولدي في يوم الثلاثاء 13 شهر شوال سنة 911 من الهجرة النبوية ولا احفظ مبدأ اشتغالي بالتعلم لكن كان ختمي لكتاب الله العزيز سنة 920 من الهجرة النبوية وسني إذ ذاك تسع سنين واشتغلت بعده بقراءة الفنون العربية والفقه على الوالد قدس سره إلى أن توفي في العشر الأوسط من شهر رجب يوم الخميس سنة 925 وكان من جملة ما قرأته عليه مختصر الشرائع واللمعة الدمشقية وفي الروضات: كان والده قد جعل له راتبا من الدراهم بإزاء ما كان يحفظه من العلم كما حكي قال ثم ارتحلت في شهر شوال من تلك السنة 925 مهاجرا في طلب العلم إلى ميس واشتغلت بها على شيخنا الجليل الشيخ علي بن عبد العالي قدس الله سره من تلك السنة إلى أواخر سنة 933 وكان من جملة ما قرأته عليه شرائع الاسلام والارشاد وأكثر القواعد والظاهر أنهم كانوا يقرأون هذه المتون مع بيان أدلة المسائل بوجه مطول أو مختصر. فيكون عمره حين رحلته إلى ميس وهي أول رحلاته 14 سنة ونحو من ثلاثة أشهر وارتحاله من ميس إلى كرك نوح في حياة الشيخ علي الميسي لان الشيخ علي توفي في جمادى الأولى سنة 938 كما صرح به الشهيد الثاني نفسه فيما يأتي من كلامه وكان الشيخ علي زوج خالته وتزوج في تلك المدة ابنة الشيخ علي وهي زوجته الكبرى وأولى زوجتيه قال ثم ارتحلت في شهر ذي الحجة إلى كرك نوح ع وقرأت بها على المرحوم المقدس السيد حسن ابن السيد جعفر صاحب كتاب المحجة البيضاء جملة من الفنون وكان مما قرأته عليه قواعد ميثم البحراني في الكلام والتهذيب في أصول الفقه والعمدة الجلية في الأصول الفقهية من مصنفات السيد المذكور والكافية في النحو وسمعت جملة من الفقه وغيره من الفنون. ثم انتقلت إلى جبع وطني زمن الوالد في شهر جمادى الآخرة سنة 934 فتكون مدة اقامته في كرك نوح سبعة أشهر الا أياما. قال وأقمت بها مشتغلا بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة 937.
رحلته إلى دمشق قال ثم ارتحلت إلى دمشق واشتغلت بها على الشيخ الفاضل المحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي فقرأت عليه من كتب الطب شرح الموجز النفيسي وغاية القصد في معرفة الفصد من مصنفات الشيخ المبرور المذكور وفصول الفرغاني في الهيئة وبعض حكمة الاشراق للسهروردي