كثرتها فروى له ان الصاحب ابن عباد رحمه الله كان إذا سافر يصحب معه سبعين حملا من الكتب بحيث صار ما صحبه قليلا في جنب ذلك وذكر انه حكى له في أول منزل برز إليه الحاج خارج مصر انه اخرج حتى صار في ذلك المنزل ألف دينار من المال. وكان محبا لشيخنا مقبلا عليه متلطفا به ولما رآه أول مرة راكبا في المحارة وكان هو في المحفة سلم عليه وتواضع معه وقال له يا شيخ انا أول حجة حججتها ركبت في موهبة وعاء من خوص وأنت الحمد لله من أول حجة ركبت في المحارة وكان شيخنا يتحرى ان لا يراه وقت الاحرام فاتفق انه صادفه حال السير فقال له بصوت عال ما أحسن هذا ما أحسن هذا تقبل الله منكم. وكانت له معه محاورات ولطائف في تضاعيف المباحثات سأله يوما في الطريق ما تقولون في امر هؤلاء العوام والرعاع الذين لا يعرفون شيئا من الدلالات المنجية من المهلكات ما حكمهم عند الله سبحانه وهل يرضى منهم مع هذا التقصير بل ننقل الكلام إلى العلماء الاعلام والفضلاء الكرام الذين جمد كل فريق منهم على مذهب من المذاهب الأربعة ولم يدر ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره مع قدرته على الاطلاع والفحص وادراك المطالب وقنع بالتقليد للسلف وجزم بأنهم كفوه مؤونة ذلك ومن المعلوم ان الحق في جهة واحدة فان قالت إحدى الفرق ان الحق في جانبها اعتمادا على فلان وفلان فكذلك الأخرى تقول اعتمادا على محققيهم وأعيان مشايخهم لأنه ما من فرقة الا ولها فضلاء ترجع إليهم وتعول عليهم فالشافعية مثلا يقولون نحن الإمام الشافعي وفلان وفلان كفونا ذلك وكذلك الحنفية يستندون إلى الامام أبي حنيفة وغيره من محققي المذهب وكذلك المالكية والحنابلة يستندون إلى فضلائهم ومحققيهم وكذلك الشيعة يقولون نحن السيد المرتضى والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين والشيخ جمال الدين وغيرهم بذلوا الجهد وكفونا مؤونة التفحص ونحن على بصيرة وثقة من أمرنا فكيف يكتفي مثل هؤلاء الفضلاء بالاقتصار على أحد هذه المذاهب ولم يطلع على حقيقة المذاهب الاخر بل ولا وقف على مصنفات أهلها ولا عرف أسماءهم فكون الحق مع الجميع لا يمكن ومع البعض ترجيح من غير مرجح فأجاب الشيخ أبو الحسن: اما ما كان من امر العوام فنرجو من عفو الله ان لا يؤاخذهم بتقصيرهم واما العلماء فيكفي كون كل منهم محقا في الظاهر قال شيخنا كيف يكفيهم مهما ذكر من تقصيرهم في النظر وتحقيق الحال فقال له يا شيخ جوابك سهل مثال ذلك من ولد مختونا خلقة فإنه يكفيه عن الختان الواجب شرعا فقال له شيخنا هذا المختون خلقة لا يسقط عنه الوجوب حتى يعلم أن هذا هو الختان الشرعي بان يسأل ويتفحص من أهل الخبرة والممارسين لذلك ان هذا القدر الموجود خلقة هل هو كاف في الواجب شرعا أم لا اما انه من نفسه يقتصر على ما وجده فهذا لا يكفيه شرعا في السقوط فقال له يا شيخ ليست هذه أول قارورة كسرت في الاسلام توفي سنة 953 بمصر ودفن بالقرافة وكان يوم موته يوما عظيما بمصر لكثرة الجمع ودفن بجانب قبة الإمام الشافعي وبنوا عليه قبة عظيمة قال روح الله روحه الزكية ومنهم الشيخ زين الدين الجرمي المالكي قرأت عليه ألفية ابن مالك ومنهم الشيخ المحقق ناصر الدين اللقاني الملقاني المالكي محقق الوقت وفاضل تلك البلدة لم أر بالديار المصرية أفضل منه في العلوم العقلية والعربية سمعت عليه البيضاوي في التفسير وغيره من الفنون ومنهم الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي قرأت عليه القرآن بقراءة أبي عمرو ورسالة في القراءة من تأليفاته ومنهم الشيخ شمس الدين محمد بن أبي النحاس قرأت عليه الشاطبية في القراءة والقرآن العزيز للأئمة السبعة وشرعت ثانيا اقرأ عليه العشرة ولم أكمل الختم بها.
قال ابن العودي كثيرا ما كان ينعت هذا الشيخ بالصلاح وحسن الأخلاق والتواضع وكان فضلاء مصر يترددون إليه للقراءة في فنون القرآن العزيز لبروزه فيها وكان هذا الفن نصب عينيه حتى أن الناس كانوا يقرؤون عليه وهو مشتغل بالصنعة لا يرمي المطرقة من يده الا إذا جاء أحد من الفضلاء الكبار فيفرش له شيئا ويجلس هو على الحصير. قال أعاد الله علينا بركاته ومنهم الشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمنهوري قرأت عليه جملة صالحة من الفنون وأجازني إجازة عامة قال ابن العودي وهذا الشيخ أيضا كان شيخنا قدس سره كثير الثناء عليه بالجمع بين فضيلتي العلم والكرم وانه كان في شهر رمضان لا يدعهم يفطرون الا عنده حتى أنهم غابوا عنه ليلة فلما جاءوا بعدها تلطف بهم كثيرا وقال كل من في البيت استوحش لكم البارحة حتى لطيفة اسم بنت صغيرة كانت له وكان له جارية إذا جاء أحد يطلبهم للضيافة يقول اعلمي سيدك بالخبر ان فلانا يطلب الجماعة ليكونوا عنده الليلة تقول هذا الخبر لا اعلمه به ولا أقول له عن ذلك. قال قدس سره ومنهم الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القادر الفرضي الشافعي قرأت عليه كتبا كثيرة في الحساب الهوائي والمرشدة في حساب الهند الغباري والياسمينية وشرحها في علم الجبر والمقابلة وسمعت عليه شرح الوسيلة وأجازني إجازة عامة وسمعت بالبلد المذكور من جملة متكثرة من المشايخ يطول الخطب بتفصيلهم منهم الشيخ عميرة والشيخ شهاب الدين بن عبد الحق والشيخ شهاب الدين البلقيني والشيخ شمس الدين الديروطي وغيرهم قال ابن العودي وكل هؤلاء المشايخ لم يبق منهم أحد وقت انشاء هذا التاريخ فسبحان من بيده ملكوت كل شئ واليه ترجعون.
رحلته من مصر للحجاز قال ثم ارتحلت من مصر إلى الحجاز الشريف في 17 شهر شوال سنة 943 فتكون مدة مقامه بمصر 18 شهرا ويومين قال ابن العودي وكان قدس سره قد رأى النبي ص في منامه بمصر ووعده بالخير ولا احفظ صورة المنام الآن فلما وقف على القبر المقدس وزاره خاطبه وأنشده وقال وذكر الأبيات الآتية عند ذكر أشعاره.
عوده إلى وطنه جبع قال طاب مثواه ورجعت إلى وطني الأول بعد قضاء الواجب من الحج والعمرة والتمتع بزيارة النبي وأصحابه ص ووصلت في 14 صفر سنة 944 قال ابن العودي وكان قدومه إلى البلاد كرحمة نازلة أو غيوث هاطلة أحيا بعلومه نفوسا أماتها الجهل وازدحم عليه أولو العلم والفضل كان أبواب العلم كانت مقفلة ففتحت وسوقه كانت كاسدة فربحت. وأشرقت أنواره على ظلمة الجهالة فاستنارت. وابتهجت قلوب أهل المعارف وأضاءت أشهر ما اجتهد في تحصيله منه وأشاع وظهر من فوائده ما لم يطرق الاسماع رتب الطلاب ترتيب الرجال وأوضح السبيل لمن طلب وفي هذه السنة توشح ببرود الاجتهاد وأفاض مولاه عليه من السعادة ما أراد الا انه بالغ في كتمان امره وقال ابن العودي أيضا في مكان آخر:
اخبرني قدس الله لطيفه وكان في منزلي بجزين متخفيا من الأعداء ليلة الاثنين 11 صفر سنة 956 ان ابتداء امره في الاجتهاد كان سنة 944 وان ظهور اجتهاده وانتشاره كان في سنة 948 فيكون عمره لما اجتهد 33 سنة وكان في ابتداء امره يبالغ في الكتمان وشرع في شرح الارشاد ولم يبده