وثانيا، نفترض إن الإرادة في قوله سبحانه: * (وما الله يريد ظلما للعباد) * (1) إرادة تكوينية، وتعرب الآية عن أن إرادته لا تتعلق بالظلم، ولكن المراد هو المشيئة التكوينية المتعلقة بالشئ من جانبه سبحانه من دون أن يكون للعبد فيها دور، بأن يقوم سبحانه بنفسه بأعمال الظلم والبغي على العباد، فيعذب البرئ المطيع وينعم المجرم الطاغي، إلى غير ذلك من الأفعال التي يستقل العقل بقبحها وشناعتها. والله سبحانه أعلى وأجل من أن تتسم إرادته بهذا العنوان.
وأما مشيئته التكوينية المتعلقة بالأشياء لكن من خلال إرادة عباده ومشيئتهم، بحيث يكون لإرادتهم دور في تحقق المتعلق واتصافه بالبغي والظلم، فالآية ليست نافية له. وذلك أن مشيئة العبد هي السبب الأخير لتعنون الفعل بالظلم وتلونه بالبغي، ولولاها لما كان عنهما خبر ولا أثر.
ولأجل دور العبد ودخالته في تحقق القبائح والمحرمات نرى أنه سبحانه جعل على ما في الحديث القدسي حسنات العبد أولى إلى نفسه من العبد، وسيئاته على العكس، قال: " وذلك أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني " (2). وما هذا إلا لأنه سبحانه قد هيأ للعبد، تكوينا وتشريعا، كل شئ يسعده فلم يصنع سبحانه إلا الجميل. فما أصابه من حسنه فمنه سبحانه لأنه عمل الجميل بمعدات جميلة واقعة منه سبحانه، في اختيار العبد، وإن ارتكب البغي والظلم فقد ارتكب القبيح بالجميل الذي صنعه سبحانه له حيث تفضل عليه بالمشيئة والاختيار والقدرة، ولكنه صرفها في غير محله فهو أولى بسيئاته من الله الجميل الفاعل له.
وباختصار، إن فعل العبد لا يقع في ملكه تعالى إلا بإرادته سبحانه جميع مقدماته التي منها اختيار العبد الموهوب من عنده سبحانه إليه، فتعلق مشيئته بأفعال العباد بمعنى أن اختيار العبد وحريته مراد لله سبحانه، فهو