تركه، فكيف يرتضي ذلك لنفسه في الخلوة؟ ثم تحسينها في الخلوة أيضا بقصد التسوية بين الخلوة والملأ، وهذا من الرياء الغامض، لأنه حسن عبادته في الخلوة ليحسنها في الملأ، فلا يكون فرق بينهما في التفاته فيهما إلى الخلق، إذ الإخلاص الواقعي أن تكون مشاهدة الخلق لعبادته كمشاهدة البهائم لها، من دون تفاوت أصلا، فكأن نفسه لا تسمع بإساءة العبادة بين أظهر الناس، ثم يستحي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظن أن ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة والملأ، وليس كما ظنه، إذ زوال ذلك موقوف على عدم التفاته إلى الخلق في الملأ والخلوة كما لا يلتفت إلى الجمادات فيهما مع أنه مشغول الهم بالخلق فيهما جميعا. وأخفاها أن يقول له الشيطان - وهو في العبادة في الملأ بعد يأسه عن المكائد السابقة -:
" أنت واقف بين يدي الله سبحانه، فتفكر في جلاله وعظمته، واستحى من أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه! فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ".
وهذا أخفى مكائد الشيطان وخداعه، ولو كانت هذه الخطرة ناشئة عن الإخلاص لما انفكت عنه في الخلوة ولم يخص خطورها بحالة حضور غيره، وعلامة الأمن من هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير سببا لحضوره، كما لا يكون حضور بهيمة سببا له، فما دام العبد يفرق في أحواله وأعماله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة، فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشكر أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد به الخبر ولا يسلم منه إلا من عصمه الله يخفي لطفه، إذ الشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة ليحملهم على الرياء في كل واحد من أفعالهم وأعمالهم.
تتميم الحق - كما أشير إليه - أن الشوب الممزوج بالاخلاص إن كان من المقاصد الصحيحة الراجحة شرعا، لم يبطل العمل والاخلاص ولم ينقص الأجر والثواب. إذ نية الخيرات المتعددة توجب تضاعف الثواب بحسبها