ثم كثيرا ما يشتبه الحياء بالرياء، فيدعي من يرائي بأنه يستحي، وإن تركه السيئات أو إخفاءها أو تحسينه للعبادات إنما هو لأجل الحياء من الناس دون الرياء، وذلك كذب. وبيان ذلك: إن الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم، ويمكن أن يهيج عقيبه داعية الرياء فيرائي معه، ويمكن أن يهيج داعية الإخلاص فيجمعه إليه. مثلا من طلب من صديقه قرضا، فإن رده صريحا من غير مبالاة ومن دون أن يتعلل ارتكب الوقاحة وعدم الحياء وإن أعطاه بمجرد انقباض نفسه من استشعار قبح رده مشافهة من دون رغبة في الثواب ولا خوف من ذمه أو حب إلى مدحه حتى لو طلبه مراسلة أو بتوسط غيره من الأجانب لرده، فإعطاؤه هذا صادر عن مجرد الحياء من دون ترتب رياء أو إخلاص عليه. وإن تعسر عليه الرد للحياء وكان ما في نفسه من البخل مانعا من الاعطاء فحدث خاطر الرياء، ويخاطب نفسه بأنه ينبغي أن تعطيه حتى يمدحك بالسخاء ولا يذمك بالبخل فأعطاه لذلك فهو مزج الرياء بالحياء، والمحرك للرياء هو هيجان الحياء. وإن تعسر عليه الرد للحياء والإعطاء للبخل، فهيج باعث الإخلاص، ويقول له الصدقة بواحدة والقرض بثمانية، ففيه أجر عظيم، وإدخال السرور على قلب مسلم صديق من أقرب القربات، فسخت نفسه بالاعطاء، فهو جمع بين الحياء والاخلاص ثم الحياء لا يكون إلا في القبائح الشرعية أو العقلية أو العرفية، كالبخل ومقارفة الذنوب والظلم وصدور بعض الحركات القبيحة عرفا في المحافل، والرياء يكون في المباحات أيضا، حتى أنه لو عاد الضحك إلى الانقباض والمستعجل في المشي إلى الهدوء بعد اطلاع الناس كان مرائيا، وربما ظن أن باعث ذلك هو الحياء وهو الجهل، إذ باعثه مجرد الرياء وما قيل: إن بعض الحياء ضعف، فالمراد أن الحياء مما ليس بقبيح ناش من ضعف النفس، كالحياء من وعظ الناس وإقامة الصلاة ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا إذا وجد عذر يحسن الحياء معه، كأن يشاهد معصية من شيخ فيستحي من شيبته أن ينكر عليه، لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، ولو استحيى من الله ولا يضيع الأمر بالمعروف لكان أحسن. وأقوياء النفوس من أهل الإيمان يؤثرون الحياء من الله على الحياء من الخلق، وأما ضعفاء النفوس منهم فقد لا يقدرون
(٢٩٨)