إذ خير الأمور أوسطها، وكلا طرفيها ذميم، فلا تظنن مما ورد في فضيلة الجوع أن الإفراط فيه ممدوح، فإن الأمر ليس كذلك، بل من أسرار حكمة الشريعة أن كلما يطلب الطبع فيه طرف الإفراط بالغ الشرع في المنع عنه على وجه يتوهم الجاهل منه أن المطلوب طرف التفريط، والعالم يدرك أن المقصود هو الوسط، فإن الطبع إذا طلب غاية الشبع، فالشرع ينبغي أن يطلب غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثا والشرع مانعا، فيتقاومان ويحصل الاعتدال. ولما بلغ النبي (ص): في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم علم من حال بعضهم أنه يقوم الليل كله ويصوم الدهر كله، فنهى عنه. والأخبار الواردة في مدح العفة وفضيلتها كثيرة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: " أفضل العبادة العفاف ". وقال الباقر (ع) " ما من عبادة أفضل من عفة بطن وفرج ". وقال (ع): " ما عبد الله بشئ أفضل من عفة بطن وفرج ". وقال (ع): " أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج ".
وفي معناها أخبار أخر.
وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الاعتدال في الأكل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه أصلا، فإن المقصود من الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة، وثقل الطعام يمنع العبادة، وألم الجوع أيضا يشغل القلب ويمنع منها. فالمقصود أن يأكل أكلا معتدلا بحيث لا يبقى للأكل فيه أثر، ليكون متشبها بالملائكة المقدسين عن ثقل الطعام وألم الجوع، وإليه الإشارة بقوله تعالى.
" وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " (9).
وهذا يختلف بالنسبة إلى الأشخاص والأحوال والأغذية، والمعيار فيه ألا يأكل طعاما حتى يشتهيه، ويرفع يده عنه وهو يشتهيه، وينبغي ألا يكون غرضه من الأكل التلذذ، بل حفظ القوة على تحصيل ما خلق لأجله، فيقتصر من أنواع الطعام على خبز البر في بعض الأوقات، وعلى خبز الشعير في بعضها، ولو ضم إليه الأدام فيكتفي بأدام واحد في بعض الأحيان، ولا يواظب على اللحم، ولا يتركه بالمرة، قال أمير المؤمنين (ع): " من ترك