وأنهم أجزلوا له العطاء، ومنحوه سلطة تقرب من سلطة حاكم المدينة فكان يأمر بحبس من يشاء أو بضرب من يريد. وبالرغم من ذلك فلم يكن الامام مالك من مؤيدي العباسيين فقد كان يرى أن الحكم هو حكم عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما وكان يرجو أن يتاح للمسلمين من يحكم بحكمهما.
ومن الناحية العقلية، كان المسلمون في جميع الأمصار قد نشطوا في الدراسات الدينية نشاطا ملحوظا، فدرسوا القرآن الكريم من نواحيه المتعددة، تفسيره وقراءاته ومفرداته ونحوه إلى غير ذلك من ألوان الدراسات التي هي محور الثقافة الاسلامية في كل العصور الاسلامية، وبجانب هذه الدراسات وجدت دراسة أخرى قوامها رواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتتبع آثاره وسننه، فقد خرج كثير من الصحابة والسابقين الأولين إلى الجهاد في سبيل الله، واجتمع إليهم الناس، فكان في كل جند طائفة منهم يعلمون كتاب الله وسنة نبيه، وإذا استفتوا في أمر لم يفسره لهم القرآن الكريم والسنة النبوية اجتهدوا فيه برأيهم، وكثيرا ما كان يستشار الخلفاء الراشدون في مثل هذه الفتاوى فكان الخلفاء يرسلون إلى الأمصار برأيهم بعد استشارة من حضر حولهم من الصحابة والسابقين، ومع ذلك لم يسلم الامر من اختلاف فتاوى الصحابة (1)، ثم اختلف التابعون وتابعوهم وفى ذلك يقول الليث بن سعد لمالك (ثم اختلف الذين كانوا بعدهم [أي بعد السابقين والتابعين] فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر وكثير ابن فرقد وغيره كثير ممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه، وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكره (2)) وهذا الخلاف الذي ذكره الليث بن سعيد لم يكن بين فقهاء المدينة فحسب بل نراه في جميع الأمصار التي استجابت لدعوة الاسلام، فكان مصدر ثروة عقلية لا نكاد نجد لها مثيلا في تاريخ الحضارات والأديان لأنها خلفت تراثا عاش عليه المسلمون بل لا يزالون يعيشون عليه إلى الآن. على أن هذه الدراسات الدينية الخالصة قد وجدت في عهد مالك بن أنس تطورا جديدا بدخول بعض عناصر أجنبية عن العرب والإسلام بفضل اعتناق كثير من الأعاجم الدين الاسلامي، وهؤلاء كان لهم آراؤهم وتقاليدهم الدينية قبل الاسلام، ولهم عاداتهم التي لم يعرفها العرب والمسلمون ثم بفضل حركة الترجمة التي بدأت في عصر الأمويين وآتت أكلها في عصر العباسيين، فكثرت الأهواء والبدع، وكثرت الفرق، وكثر بينها الجدل فنجد فرق الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة والمعتزلة كما ظهرت في عهد المنصور فرقة الخراسانية والراوندية والزنادقة وغيرها من فرق الغلاة على أن بيئة الحجاز لم تتأثر بذلك كله تأثرا كبيرا واستطاعت المدينة أن تحافظ على تقاليدها التي ورثتها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تكن تميل إلى الجدال في الدين بل كانت إلى الحفظ والنقل أقرب، ولهذا كان الناس يفضلون الاخذ برأي أهل