وتبويب الاخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج الروافض ومنكري الاقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعد بن أبي عروية وغيرهما فكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدونوا الاحكام، فصنف الامام مالك الموطأ وتوخى فيه القوى من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم (1). فمالك رضي الله عنه كان من أوائل المدونين للحديث الصحيح، العاملين على الحذر والاحتياط في قبول ما يروى، المدققين الناقدين في المتن والسند، ولذلك قال ابن عيينة (ما رأيت أحدا أجود أخذا للعلم من مالك وما كان أشد انتقاءه للرجال والعلماء (2)) ولعل مالكا كان أسبق علماء الحديث في وضع ما عرف بفن الحديث فإننا لا نكاد نعرف من سبقه في نقد الرواة والتشدد في الاخذ عن الرواة والعلماء. وكذلك فعل في ما رواه في المسائل الفقهية لان الموطأ مزيح من حديث وتفسير وفقه وتاريخ، لان العلوم لم تكن قد تحددت معالمها بعد، ولارتباط هذه العلوم بعضها ببعض وتداخلها بحيث احتاجت هذه العلوم إلى وقت طويل تطورت فيه حتى انفصل بعضها عن بعض واتخذت معالمها المحددة التي هي عليها اليوم.
وعلى هذا النحو صنف مالك الموطأ وجمع فيه ما صح عنده من ألوان هذه العلوم المختلفة. وقد روى الطبري عن العباس بن الوليد عن إبراهيم بن حماد قال: سمعت مالكا يقول: قال لي المهدى: يا أبا عبد الله ضع كتابا أحمل الأمة عليه. قال: يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع - وأشار إلى المغرب - فقد كفيتكه، وأما الشام ففيهم الذي علمته - يعنى الأوزاعي - وأما أهل العراق فهم أهل العراق (3)، فيفهم من ذلك أن المهدى هو الذي طلب من مالك أن يصنف الموطأ، ولكن هناك رواية أخرى ذكرها الطبري أيضا تخالف الرواية الأولى فقد روى عن محمد بن عمر قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه فحادثته وسألني فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعتها - يعنى الموطأ - فتنسخ نسخا ثم أبعث إلى مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونه إلى غيره ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وأن ردهم عما قد اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل بلد لأنفسهم، فقال:
لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به (4) هكذا ساق ابن جرير تلك الرواية التي تناقض الأولى دون أن يرجح إحداهما، ويغلب على ظني رفض الروايتين، ذلك أن المهدى ولى الخلافة العباسية سنة 158 ه في وقت كان مالك في نحو الخامسة والستين من عمره، أي أنه كان في أواخر سنى حياته، وأن المهدى وهو أمير روى عن مالك الموطأ، فكيف يطلب منه أن يصنف الموطأ وهو خليفة؟ ويفهم من الرواية الثانية أن علم مالك كان منتشرا