المدينة، وقد أخذ مالك نفسه بتمييز المدينة ووافقه الليث بن سعد وتلاميذ المدرسة المالكية، وها هو ابن عبد الحكم رئيس المدرسة المالكية بمصر يقول: إذا جاوز الحديث الحرتين ضعفت شجاعته (1)، وكان مالك بن أنس يتجنب أصحاب الفرق وأصحاب الأهواء، وطعن في آرائهم فقد قيل إنه كان يقول إذا ذكر عنده أحد أصحاب الأهواء: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الامر بعده سننا الاخذ بها اتباع لكتاب الله تعالى واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله ليس لأحد بعد هؤلاء تبديلها ولا النظر في شئ خالفها، فمن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا (2) على هذا النحو كان ينظر مالك إلى أصحاب الفرق المختلفة، فالدين عنده هو الاخذ بكتاب الله الكريم وسنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وما قال به الخلفاء الراشدون وما رواه الصحابة وأهل العلم والتقى من علماء المدينة وهذا هو المنهج الذي رسمه مالك لنفسه، والذي يقوم عليه كتابه الموطأ، ونحن نرى هذا المنهج واضحا كل الوضوح في الكتاب، وأيده ما قاله ابن أبي أويس أحد تلاميذ مالك فهو يقول: قيل لمالك: قولك في الكتاب الامر المجتمع عليه، والامر عندنا وببلدنا، وأدركت أهل العلم، وسمعت بعض أهل العلم، فقال: أما أكثر ما في الكتاب فرأيي، فلعمري ما هو برأيي، ولكنه سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم وهم الذين كانوا يتقون الله تعالى، فكثر على فقلت رأيي، وذلك رأيي إذ كان رأيهم رأى الصحابة الذين أدركوهم عليه وأدركتهم أنا على ذلك، فهذا وراثة توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا، وما كان رأيا فهو رأى جماعة ممن تقدم من الأئمة، وما كان فيه الامر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه، وما قلت الامر عندنا ما عمل به الناس عندنا وجرت به الاحكام وعرفه الجاهل والعالم، وكذلك ما قلت فيه ببلدنا، وما قلت فيه بعض أهل العلم فهو شئ استحسنته من قول العلماء، وأما ما لم أسمع منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم، وإن لم أسمع ذلك بعينه فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع السنة وما مضى عليه عمل أهل العلم المقتدى بهم، والامر المعمول به عندنا منذ لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة الراشدين مع من لقيت فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره (3)، فهذا المنهج الذي رضيه مالك لنفسه يدلنا على أنه كان ينقل العلم رواية شأنه في ذلك شأن كل العلماء في عصره، إلا أنه دون ما رواه، وفسر ما نقله فهو راوية من ناحية، ومجتهد من ناحية أخرى، راوية للحديث النبوي الشريف وآراء من أخذ عنهم من المجتهدين، وما رضى به علماء أهل المدينة لأنفسهم مما أخذوه عن السلف الصالح، وهو مقيد نفسه بذلك كله لا يحيد عنه، ويتحرج من المجادلة فيه، ولكنه مع ذلك كله مجتهد في اختيار الحديث، ناقد مدقق، احتاط أشد الاحتياط في روايته حتى قال الشافعي: كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله (4). وقال ابن أبي أويس: سمعت مالكا
(المقدمة ٢٥)