مالك، أما مالك نفسه فكان مضطرا إلى أن لا يسهم في هذه الثورة مساهمة إيجابية، ذلك أن المنصور العباسي أرسله مع من أرسل إلى بنى الحسن ليدفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابني عبد الله (1)، فلما قام محمد وإبراهيم بالثورة لم يسع مالك أن يشترك فيها وهو الذي كان رسولا لتسلمهما بالأمس، وفى الوقت نفسه كان ينقم على المنصور جبروته وطغيانه ولهذا كان يأتيه أهل المدينة يستفتونه في الخروج مع محمد ويقولون إن في أعناقهم بيعة لأبي جعفر فيقول:
إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين (2).
وهذه التيارات السياسية اضطرت الامام إلى أن يتحفظ، ولهذا وصف مالك بأنه كان أعظم الخلق مروءة وأكثرهم صمتا قليل الكلام متحفظا بلسانه من أشد الناس مداراة للناس (3)، ومع ذلك كله لم ينج مالك من نقمة العباسيين فجلدوه في أمر اختلف فيه القدماء، فمنهم من قال إنه جلد لما أفتى به في ثورة النفس الزكية، وقيل بل لان المنصور طلبه للقضاء فرفض فاعتبر المنصور أن رفضه لون من ألوان عدم التعاون مع الحاكم فأمر بضربه، وقيل إن المنصور أمره يأن لا يروى حديث طلاق المكره فلم يخضع للامر فعذب، ولكن يحيى بن بكير - أحد تلاميذ مالك - قال: ما ضرب مالك إلا في تقديمه عثمان على علي رضي الله عنهما، فسعى به الطالبيون حتى ضرب، وأنكر القدماء قوله فقيل له: خالفت أصحابه فقال: أنا أعلم من أصحابه (4). ونحن ننكر مع القدماء رأى ابن بكير فإننا لا نعرف للطالبيين نفوذا في عهد المنصور، ولم نعرف أن تقديم عثمان على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما يوجب سخط العباسيين، بل من المؤكد أن العباسيين كانوا يعمدون إلى الانتقاص من فضائل علي وتقديم غيره من الصحابة عليه، ويكفى أن نقرأ ما كتبه أبو جعفر المنصور إلى محمد النفس الزكية لندرك إلى أي حد عمد المنصور إلى دفع فضائل علي وتفضيل غيره عليه، فقد قال: وأما ما فخرت به من علي، وسابقته فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه، وكان في الستة فتركوه كلهم دفعا له عنها، ولم يروا له حقا فيها، أما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق دونه بابه ثم بايع معاوية بعده، ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها، وتفرق عنه أصحابه، وشك فيه شيعته قبل الحكومة. الخ (5). فهذه سياسة المنصور نحو علي والعلويين فكيف يقبل قول الطالبيين في مالك لتفضيله عثمان على علي؟ حقيقة نفهم من قول الليث بن سعد أنه ومالكا كانا يفضلان عثمان، ولم يرو مالك عن علي، فلما سئل عن ذلك قال إنه لم يكن بالمدينة، ولكن ليس معنى ذلك أنه امتحن بسبب رأيه هذا، ولذلك ننكر رواية يحيى بن بكير، وترجح قصة حديث طلاق المكره فهي أقرب إلى العقل. على أن العلاقة بين مالك والعباسيين لم تلبث أن وطدت، إذ تقرب إليه العباسيون ليتخذوا منه ومن أمثاله من العلماء سندا وعونا في توطيد حكمهم، فزاره بعض الخلفاء العباسيين، وروى المهدى العباسي عنه الموطأ، والروايات كثيرة حول مقابلات مالك وخلفاء العباسيين، وكلها تثبت أن العباسيين عرفوا قدر هذا العالم الكبير،