يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين - وأشار إلى المسجد - فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن (1).
وبلغ به تحرجه واجتهاده معا في التدقيق في المسائل التي يسأل عنها فقد روى ابن القاسم: سمعت مالكا يقول:
إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ما اتفق لي فيها رأى إلى الآن، وكان يقول: ربما وردت على المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي (2). فهذا كله يدل على أن مالكا كان يفكر ويطيل التفكير، وينظر في المسائل وينعم فيها النظر، يخاف الله ويخشاه فيما يسأل عنه لأنه يتحدث في أمر دين الله، فقد رأيناه يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه) فلا غرو أن رأينا القدماء أنفسهم يثقون برواية مالك للحديث ثقة تامة، ووصفوا مالكا بصفات الراوية الكامل، وقدموه على شيوخه أنفسهم، ويروى ابن عبد الحكم أن مالكا كان يفتى مع يحيى ابن سعيد وربيعة ونافع وكانت له حلقة في حياة نافع أكبر من حلقة نافع (3)، فهذا اعتراف من معاصريه أنفسهم بتفضيله على نافع مع مكانة نافع وعلو كعبه وفضله حتى لقب بفقيه المدينة، وربما كان تفضيل معاصريه له وتسابقهم للاخذ عنه سببا في أن يتقول عليه بعض العلماء أمثال ابن إسحاق وابن أبي ذؤيب وغيرهما حسدا له على ما بلغه من مكانة في نفوس معاصريه، وربما حقدوا عليه لان مالكا كان يخالفهم ويطعن عليهم، ومع ذلك فإن هؤلاء العلماء الذين نقدوا مالكا لم يستطع أحدهم أن ينقد رواية من رواياته للحديث الشريف، إنما كان أكثر النقد يدور حول أمور فقهية كان يراها مالك ولم يأخذوا هم بها، أو نقد بعض تصرفات مالك الخاصة مثل تخلفه عن صلاة الجماعة وعدم شهود الجنائز أو عيادة المرضى مع أنه كان يزور الأمراء، وذلك كله حدث في أواخر أيام حياته حين حلت به الشيخوخة، فهذه المسائل التي وجهت إلى الامام لا تنقص من قيمته العلمية ولا من صحة روايته، وهي أقرب ما يكون من نقد المتنافسين بعضهم إلى بعض.
وبجانب ما امتاز به الموطأ من صحة الحديث فهو من أوائل الكتب التي دونت في الحديث، فنحن نعلم أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أراد أن يدون السنن النبوية واستشار في ذلك بعض الصحابة فوافقوه على ذلك.
ولكنه رجع عن ذلك خشية أن تلتبس السنة بكتاب الله الكريم، وأن الصحابة لم يكتبوا الحديث إنما كانوا يؤدونه حفظا. إلا ما رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب العلم حيث يقول: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. وفى عهد عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه وكان يكتب إلى علماء المدينة خاصة يسألهم، كما أمر أبا بكر بن محمد بن حزم أن ينظر ما كان من حديث الرسول أو سننه أو حديث عمر فيكتبه خوفا من ذهاب الحفاظ، فكان هذا كله ابتداء تدوين الحديث النبوي الشريف، وورد في تنوير الحوالك: وحدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار