حمير في الجاهلية. واختلف القدماء في جد أبيه أبى عامر بن عمرو. فذهب بعضهم إلى أنه صحابي شهد مع النبي جميع الغزوات إلا بدرا (1)، وقال آخرون بل أسلم بعد وفاة الرسول (2) ونتيجة هذا الخلاف نرى خلافا آخر في شأن جده، مالك بن أبي عامر، فقد ذهب بعضهم إلى أنه أول من وفد من هذه الأسرة من اليمن إلى الحجاز. وكان من التابعين الذي لهم رواية عن الصحابة وأنه من الذين كتبوا المصحف الشريف في عهد عثمان (3)، أما والد الامام فكان مقعدا يحترف صنعة النبل ولا يذكر له شئ في العلم، ولا نعرف شيئا نطمئن إليه عن أم الامام لكثرة اختلافات القدماء عنها وعن اسمها.
بدأ مالك يطلب العلم صغيرا، فأخذ عن كثيرين من علماء المدينة، ولعل أشدهم أثرا في تكوين عقليته العلمية التي عرف بها هو أبو بكر عبد الله بن يزيد المعروف بابن هرمز المتوفى سنة 148 ه فقد روى عن مالك أنه قال:
كنت آتى ابن هرمز من بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل (4). ولازمه مالك على هذا النحو سبع سنوات أو ثمان (5). ويروى الطبري قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة قال: سمعت مالك بن أنس يقول: كنت آتى ابن هرمز فيأمر الجارية فتغلق الباب وترخى الستر ثم يذكر أول هذه الأمة ثم يبكى حتى تخضل لحيته (6).
فمن ذلك نتبين مدى الصلة التي كانت بين مالك وبين شيخه ابن هرمز حتى كان ابن هرمز يسر إليه أشياء لا يفصح بها لسواه، ونحن لا نكاد نعرف شيئا عن ابن هرمز. فلم نعثر له على ترجمة في كتب الطبقات، ولا ندري إلى أي حد أخذ عنه مالك. فلم أجد له ذكرا في رجال الموطأ، ولكن ابن جرير يذكر ابن هرمز في ثورة محمد بن عبد الله - المعروف بالنفس الزكية - ضد أبى جعفر المنصور، فيروى قدامة بن محمد قائلا: خرج ابن هرمز ومحمد بن عجلان مع محمد فلما حضر القتال تقلد كل واحد منهما قوسا. قال: فظننا أنهما أرادا أن يريا الناس أنهما قد صلحا لذلك (7) ولما انتهى القتال يروى الطبري عن عبد الله بن برقي: رأيت قائدا من قواد عيسى جاء في جماعة يسأل عن منزل ابن هرمز فأرشدناه إليه، فخرج وعليه قميص رياط، قال فأنزلوا قائدهم وحملوه على برذونه وخرجوا به يزفونه حتى أدخلوه على عيسى فما هاجه فقال له: أيها الشيخ أما وزعك فقهك عن الخروج مع من خرج، قال: كانت فتنة شملت الناس فشملتنا فيهم قال: اذهب راشدا (8). فمن ذلك نستطيع أن نتبين ما عرف به ابن هرمز من فقه ومن أثر في أهل بلدته حين تقلد القوس ليتبعه الناس، ونحن لا ندري عما أسر به إلى مالك حتى نتبين أثره في مالك، كما لا نستطيع أن نفترض أشياء لا تقوم على أساس ما دامت حياة ابن هرمز مجهولة.
ومن شيوخ مالك ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 124 ه وكان من أكبر علماء المدينة في عصره، بل يعد من أوائل المدونين، وكان من رجال الأمويين بالشام وتولى لهم القضاء والفتيا ورحل إلى المدينة فتزاحم عليه طلاب العلم يأخذون عنه ومنهم مالك فقد روى له في الموطأ مائة واثنين وثلاثين حديثا منها اثنان وتسعون مسندة وسائرها