في بلاد المغرب، فهل كان هذا العلم هو ما دون في الموطأ أم غيره، وإذا كان هو ما دون في الموطأ فهل بلغ المغرب مدونا أو غير مدون! والنص يحدثنا عن كتب مالك التي وضعها أي أن مالكا كان وضع كتبه قبل أن يراه المنصور، ثم هل كان المنصور في غفلة حتى يطلب من مالك أن ينسخ كتبه ليعمل بها أهل الأمصار بما فيهم أهل العراق، ونحن نعلم أن الامام مالك كان له رأى في علماء العراق، وعلماء العراق لهم رأى في مالك، فهل كان المنصور يضمن تأييد علماء العراق أو غير العراق من الأمصار، لعلها رغبة جاشت في نفس المنصور ولكنه أدرك أنها بعيدة التحقيق، أما متى صنف الموطأ فتحديد ذلك لا سبيل إليه ولا سيما إذا علمنا أن مالكا وضع الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث ولم يزل ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتى بقي ما بين أيدينا (1)، فهذا يدل على أن تصنيفه استغرق أعواما عديدة لا نستطيع أن نحددها بالرغم مما ذكره السيوطي أن مالكا قال ألفته في أربعين سنة (2) وقد روى الموطأ عن مالك عدد كبير من العلماء وفى ذلك يقول السيوطي: الرواة عن مالك فيهم كثرة بحيث لا يعرف لاحد من الأئمة رواة كرواته (3) كانوا أساتذة مدرسته في الأمصار ولعل مدرسة المالكية في مصر كانت من أنشط المراكز لنشر تعاليم مالك ورواية الموطأ، وعن المصريين انتشر المذهب في المغرب والأندلس فهرع علماؤها إلى الاخذ عن مالك نفسه وفى ذلك يقول ابن خلدون: وأما مالك فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الاخذ عن علماء المدينة وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلاميذه من بعده فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته (4)، ويذكر المؤرخون أن أول من بث تعاليم مالك بالأندلس هو عبد الملك بن حبيب، وأشهر تلاميذ مالك من الأندلسيين هو يحيى بن يحيى الأندلسي الذي انتشرت روايته للموطأ وكادت تندثر روايات غيره من تلاميذ مالك وهو الذي كان أثيرا عن أمويي الأندلس فلم يتول قضاء الأندلس أحد إلا بمشورته فكان جميع قضاتها من أصحابه وتلاميذه (5)، وهذا لم يحدث لاحد من تلاميذ مالك إلا لليث بن سعد بمصر، ولكن الليث كان صاحب مذهب خالف فيه مالكا في بعض المسائل نراها مبثوثة في رسائله إلى مالك، وربما كان استئثار الحكومة الأموية بالأندلس بالعطف على يحيى بن يحيى من أسباب بقاء روايته وشهرتها دون غيرها من الروايات.
وأترك الآن الحديث عن مكانة الموطأ بين كتب الحديث إلى صديقي الكبير محمد فؤاد عبد الباقي الذي اتخذته لي أبا وأستاذا فهو جدير بهذا الحديث.
الجيزة في 15 فبراير سنة 1951 محمد كامل حسين