العظيم، ويكثر التأمل في أحوال البخلاء وفي نفرة الطبع عنهم، حتى يعرف بنور المعرفة أن البذل خير له من الامساك في الدنيا والآخرة. ثم يكلف نفسه على البذل ومفارقة المال، ولا يزال يفعل ذلك إلى أن يهيج رغبته في البذل، وكلما تحركت الرغبة ينبغي أن يجتنب الخاطر الأول ولا يتوقف، لأن الشيطان بعده الفقر ويخوفه ويوسوسه بأنواع الوساوس الصادة عن البذل.
ولو كان مرض البخل مزمنا غير مندفع بما مر، فمن معالجاته أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالجود، فيبذل على قصد الرياء، حتى تسمح نفسه بالبذل طمعا في الاشتهار بصفة الجود، فيكون قد زال عن نفسه رذيلة البخل واكتسب خبث الرياء، ولكن يتعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه، ويكون طلب الشهرة والاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما يسلى الصبي عند فطامه عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها، لا لكون اللعب مطلوبا بذاته، بل لينتقل من الثدي إليه ثم ينتقل عنه إلى غيره. فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض حتى يندفع الجميع، فتسلط الشهوة على الغضب حتى تكسر سورته بها، ويسلط الغضب على الشهوة حتى تكسر رعونتها به. وقد جرت سنة الله بدفع المؤذيات والمهلكات بعضها ببعض، إلى أن يندفع الجميع، سواء كانت من الصفات المؤذية أو من الأشخاص المؤذية من الظلمة والأشرار، ألا ترى إنه يسلط الظالمين والأشرار بعضهم على بعض إلى أن يهلك الجميع؟
ومثال ذلك - كما قيل -: إن الميت تستحيل جميع أجزائه دودا، ثم يأكل بعض الديدان بعضا، إلى أن يرجع إلى اثنين قويين، ثم لا يزالان يتقابلان ويتعارضان، إلى أن يغلب أحدهما الآخر فيأكله ويسمن به، ثم لا يزال يبقى وحده جائعا إلى أن يموت. فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعض على بعضها حتى يقمعها، فيجعل الأضعف قوتا للأقوى، إلى أن لا تبقى إلا واحدة. ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة، وهو منع القوت منها، أي عدم العمل بمقتضاها، فإنها تقتضي لا محالة آثارا، فإذا خولفت خمدت وماتت. مثلا البخل يقتضي إمساك المال، فإذا منع مقتضاه