الأول - أن التوحيد العام ألا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، إذ المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنما تمتحن درجة الحب بمفارقة سائر المحاب، والأموال محبوبة عند الناس، لأنها آلة تمتعهم بالدنيا، ولأجلها يأنسون بهذا العالم، ويخافون من الموت ويتوحشون منه، مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا في صدق دعواهم الحب التام لله تعالى بمفارقتهم عن بعض محابهم، أعني المال، ولذلك قال الله سبحانه:
" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " (97).
ولفهم هذا السر في بذل الأموال، انقسم الناس بحسب درجاتهم في التوحيد والمحبة ثلاثة أقسام: (قسم) صدقوا التوحيد ووفوا بعهده، ولم يجعلوا قلوبهم إلا محلا لحب واحد. فنزلوا عن جميع أموالهم، ولم يدخروا شيئا من الدرهم والدينار وغيرهما من أنواع المال، ولم يتعرضوا لوجوب الزكاة عليهم، حتى قيل لبعضهم: كم يجب من الزكاة في مائتي درهم؟ فقال: أما على العوام - بحكم الشرع - فخمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع. وسئل الصادق (ع): " في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال: أما الزكاة الظاهرة، ففي كل ألف خمسة وعشرون، وأما الباطنة، فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك ". و (قسم) درجتهم دون هذا، وهم الذين أمسكو أموالهم، ولكنهم راقبوا مواقيت الحاجات ومراسم الخيرات، ويكون قصدهم من الامساك الإنفاق على قدر الحاجة، دون التنعم، وصرف الفاضل عن قدر الحاجة إلى وجوه البر.
وهؤلاء لا يقتصرون على إعطاء مجرد ما يجب عليهم من الزكاة والخمس، بل يؤدون جميع أنواع البر والمعروف أو أكثرها. و (قسم) اقتصروا على أداء الواجب، فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه. وهو أدون الدرجات وأقل المراتب، وهو درجة العوام الراغبين إلى المال، لجهلهم بحقيقته وفائدته، وضعف حبهم للآخرة.
الثاني - تطهير النفس عن رذيلة البخل، فإنه من المهلكات - كما تقدم -، وإنما تزول هذه الرذيلة ببذل المال مرة بعد أخرى حتى يتعود، إذ حب الشئ لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته، حتى يصير ذلك اعتيادا.