فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبهما بالمال وجودا وعدما، فإن تساويا فيه تساوت درجتهما. وإن تفاوتا فيه فأيهما أقل تعلقا درجته أعلى وأفضل بل مع وجود تعلق لهما وتساويهما فيه يكون وجود قدر الحاجة من المال أفضل من فقده، إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة والطاعة.
ومع عدم تعلق قلبهما أصلا بحيث يستوي عندهما وجود المال وعدمه كان المال عندهما كهواء الجو وماء البحر - وبالجملة حصلت لهما المرتبة الأخيرة من الفقر، أعني الاستغناء والرضا - كان الواجد أفضل من الفاقد، لاستوائهما في عدم الالتفات إليه، ومزية الواجد باستفادة أدعية الفقراء والمساكين.
ثم الحكم بانقطاع القلب رأسا عن المال وجودا وعدما إنما يتصور في الشاذ النادر الذي لا يسمح الدهر بمثله إلا بعد أزمنة متطاولة، وقلوب جل الناس غير خالية عن حب المال والتعلق به. فتفصيل القول بأفضلية من هو أقل تعلقا بالمال، استواء درجتهما مع استوائهما في التعلق، ومزية الواجد على الفاقد مع انقطاع قلبهما بالكلمة عنه مزلة الأقدام وموضع الغرور، إذ الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفينا في باطنه وهو لا يشعر به، وإنما يشعر به إذا فقده، فما عدا الأنبياء والأولياء وشر ذمة قليلة من أكابر الأتقياء لو ظنوا انقطاعهم عن الدنيا إذا جربوا أنفسهم بإخراج المال من أيديهم يظهر لهم أنهم مغرورون وليس لهم تمام الانقطاع عن الدنيا، وإذا كان ذلك محالا أو بعيدا فليطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الناس وأفضل، لأنه عن الخطر أبعد، إذ فتنة السراء من فتنة الضراء أشد، وعلاقة الفقير وأنسه بالدنيا غالبا أضعف، وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب أذكاره وعبادته، إذ حركات اللسان والجوارح ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور وتأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ عن غير المذكور أشد من تأثيرها في قلب مشغول، ولهذا وردت الأخبار مطلقة في فضل الفقر على الغنى، وفي فضل الفقراء على الأغنياء.
(الثاني) في الترجيح بين الفقر مع الحرص والجزع، والغنى مع الحرص والإمساك. والتحقيق فيه أن مطلوب الفقير إن كان ما لا بد منه في